الكلام الذي ستقرأون يتجاوز العواطف والمصالح الضيقة والحقد المتداول، ليلامس وقائع حصلت وعِبراً استخلصت وقراراتٍ اتّخِذّت ومهاماً أُنجزت، وأخرى تنتظر الإنجاز.
إنها بعضٌ من ملامح الاستراتيجية التي أرساها الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد مرحلة اجتياح لبنان في العام 1982، وسأتعرّض للجانب العسكري منها فقط.
الأيّام التي تلت اجتياح العام 1982 للبنان، ووصلت خلاله القوات الصهيونية الى مشارف المديرج عند نقطة نبع الصفا والى بيادر العدس النقطة القريبة من الأمن العام اللبناني، نقطة الحدود بين لبنان وسوريا، وتمكّن هذه القوات من احتلال العاصمة اللبنانية بيروت، هذه الأيام كانت بداية التفكير الجدّي للرئيس الراحل حافظ الأسد في ردم الهوّة في فارق التسليح بين سورية و"إسرائيل"، وإحداث توازن استراتيجي حقيقي بكلفة أقلّ وإمكانيات متدنية.
وقبل الدخول في الموضوع، لا بدّ من الإشارة الى مسألة لا تزال غامضة على الكثيرين، وهي لماذا استطاعت "إسرائيل" أن تدمّر بطاريات الـsam السورية المتمركزة في البقاع، ولماذا لم يستطع سلاح الجو السوري أن يكون في مستوى المعركة الجوية؟
إنّ وجود هذه البطاريات في سهل البقاع حرَمها من ميزة التفاعل الراداري السريع، بحكم وجودها في وادٍ (سهل البقاع) خلفه السلسلة الشرقية لجبال لبنان، وبمواجهتها قمم السلسلة الغربية لجبال لبنان، إضافةً الى أنّ "إسرائيل" عمدت الى تدمير الرادارات السورية القليلة في بعض التلال على طريق بيروت-الشام، ما حرَم هذه البطاريات من ميزة الاستعداد المسبق وأدّى الى تدميرها سريعًا.
أمّا فيما يتعلّق بطائرات سلاح الجو السوري، فقد كانت فاقدة لقدراتها لسببين رئيسيين، وهما:
1- بُعد هذه الطائرات عن قواعدها وحرمانها من ميزة التواصل مع أبراج المراقبة، ممّا جعل الطياريين السوريين يقاتلون بالاعتماد على رادارات طائراتهم وعلى الرؤية المباشرة.
2- تفوّق الطائرات الصهيونية تكنولوجيًا، حيث شاركت طائرات f-15 و f-16 للمرّة الأولى في المعارك الجوية وعمليات القصف، إضافةً الى اشتراك طائرات إنذار مبكر وقيادة جوية من طراز HAWK EYE E-2 القادرة على إدارة المعركة الجوية ومتابعة المعركة البرية أيضًا، مع التذكير بأنّ الطائرات السورية الوحيدة التي بقيت فاعلة في المعركة هي طوافات "غازيل" المضادة للدروع، والتي سبّبت خسائر فادحة في الدروع الصهيونية رغم العدد القليل منها الذي شارك في المعركة، الى جانب القوات السورية التي أوقفت التقدّم الصهيوني في نبع الصفا قرب المديرج في جبل لبنان وبيادر العدس قرب راشيّا في البقاع اللبناني، وكان لهاتين المعركتين الأثر الكبير في وضع ملامح الخطة الاستراتيجية للرئيس الراحل حافظ الأسد فيما بعد، نظرًا لأن عامل الحسم الرئيسي في هاتين المعركتين كان لقوّات النخبة المزوّدة بصواريخ مالوتكا وساغر المضادة للدروع.
بعد اجتياح العام 1982 كان لا بدّ من دراسة نتائج هذا الاجتياح وطبيعة المعارك التي جرت خلاله وخصوصًا المعارك الجويّة والمعارك البريّة، واستخلاص العِبَر واتخاذ القرار المناسب في اعتماد أساليب وأنماط تحقق مع الوقت التوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني.
وحتى لا نستغرق طويلًا في الخوض بالتفاصيل، نشير الى أنّ القرار التاريخي للرئيس الراحل حافظ الأسد تركّز في الجانب العسكري على أمرين:
1- التركيز على سلاح الصواريخ بمختلف أنواعه وقدراته لتحقيق قوّة ناريّة تطال العمق الصهيوني، وتحقق توازن الرعب وتخلق خللًا في قدرة العدو في السيطرة على جبهته الداخلية، وإحداث ضررٍ كبيرٍ في بنيته الاقتصادية من خلال تخفيف قدرته الإنتاجية زمن الحرب.
2- إيلاء القوات الخاصّة أهمية أكبر، وإضافة أسلحة نوعية الى قدراتها التسليحية وتحديدًا الصواريخ المضادة للدروع، لشلّ قدرات سلاح المدرّعات الصهيونية وتعطيل فاعليته وإلغاء قدرته على تحقيق تقدّم كبير في ساحة المعركة، كما كان يحدث في الحروب العربية الصهيونية السابقة.
الاستخدام الجدّي الأول لهذه الاستراتيجية كان مع بداية العام 1996، أثناء عملية عناقيد الغضب التي أعقبها تفاهم نيسان، هذا التفاهم الذي كان برعاية الرئيس الراحل حافظ الأسد مباشرةً والذي أرسى حق المقاومة اللبنانية في الاستمرار بالعمليات العسكرية مع تحييد المدنيين اللبنانيين مقابل تحييد المدنيين الصهاينة عن صواريخ المقاومة اللبنانية.
كان لهذا التفاهم الدور الكبير في تفعيل عمليات المقاومة اللبنانية، والتي أدّت الى انسحاب القوات الصهيونية من جنوب لبنان في العام 2000 تحت ضربات المقاومة النوعية، والتي كانت قد بدأت بالتحوّل من مجرد عمليات صغيرة وكمائن عند انطلاقها الى عمليات هجومية على أغلب مواقع الجيش الصهيوني.
بعد التحرير لم تذهب المقاومة اللبنانية الى الرّاحة والسكون، بل على العكس استمرّت في إعداد وحداتها القتالية وعملت بشكلٍ كبيرٍ على رفع جهوزيتها وتطوير تسليحها، وتحديدًا في سلاح صواريخ أرض-أرض والصواريخ المضادة للدروع.
في العام 2005، وبعد خروج الصهاينة من قطاع غزة، بدأت عملية إعداد جدية للمقاومة الفلسطينية عبر تدريب وتجهيز مجموعات مقاتلة على غرار ما جرى في لبنان.
المعادلات الأولى التي تمّ رسمها في المواجهة مع الصهاينة جرت في عدوان تموز 2006، حيث شاهدنا الكثير من المفاجآت في المعركة التي استمرّت لـ33 يومًا وانتهت بقرار مجلس الأمن 1701 الذي أوقف الصراع المسلّح ولم يصل الى مرحلة وقف إطلاق النار.
ماذا حصل خلال عدوان 2006 على لبنان والعدوان المستمر على غزّة في 2009 و2012 والمعركة الدائرة الآن، وما هي طبيعة المعادلات الجديدة؟
في عام 2006 لم تكن المقاومة تمتلك أكثر من 11 ألف صاروخ من فئة GRAD، في مدى يتراوح بين 11 كلم و21 كلم، وحوالي ألفٍ من الصواريخ المعدلّة من هذا الطراز بمدى يصل الى 32 كلم برأسٍ تفجيري لا يتجاوز 11 كلغ من المتفجرات، إضافةً الى عشرات صواريخ من فئتي فجر-3 وفجر -5 بمدى يتراوح بين 70 كلم و90 كلم، برأس تفجيري بين 60 و80 كلغ من المتفجرات، وبضعة صواريخ من فئة زلزال بمدى يصل الى 150 كلم ورأس تفجيري بين 120 و150 كلغ.
كما أنّ المقاومة اللبنانية أبرزت مجموعة من مفاجآتها، ومنها الصواريخ المضادّة للدروع من طرازات كونكرس وكورنيت وتاو الأميركي المحسّن في إيران، وجافلين الذي يعتبر من فئة صواريخ "أطلق وإنسَ". إضافةً الى المفاجآتين اللتين تمثلتا بإصابة البارجة ساعر بصواريخ C – 802 أرض بحر الصينية، والطائرات بدون طيار.
نفس المشهد تقريبًا الذي حصل في لبنان خلال عدوان 2006 نشاهده هذه الأيّام في قطاع غزة، فماذا فعلت صواريخ لبنان وغزّة وما هي المعادلات الجديدة التي نتحدّث عنها؟
أولًا: لا بدّ من الإشارة الى أنّ الكيان الصهيوني قام على فكرة الهجرة الى فلسطين المحتلّة، وأنه طيلة السنوات الماضية كان يمتلك الجيش الأقوى في المنطقة أو ما سمّي بالجيش الذي لا يُقهر.
- في العام 2006، خلال عدوان تموز، استطاعت المقاومة اللبنانية أن تقاتل 33 يومًا وترمي حوالي 1500 صاروخ، وتُجبر أكثر من مليون صهيوني على ترك منازلهم في مستوطنات الشمال والتوجه الى وسط فلسطين المحتلة، فيما غادر منهم 100 ألف مستوطن بشكلٍ نهائي الى خارج الكيان وعادوا الى البلدان التي قدموا منها، إضافةً الى إجبار المستوطنين الباقين على التزام الملاجئ طيلة فترة الحرب.
- توجيه ضربات قاسية للقوات الخاصّة الصهيونية وتدمير أكثر من 100 دبابة من طرازات ميركافا المختلفة بصواريخ مضادة للدروع، أهمها صواريخ الكورنيت في سهل الخيام ووادي الحجير.
- إحداث ضرر بالغ في الاقتصاد الصهيوني في قطاعات الزراعة والصناعة والزراعة، وخلق حالة إرباك كبيرة في كلّ القطاعات الاقتصادية الصهيونية ووضعها في حالة الحذر، وأهمها قطاعي الصناعة الكيميائية والنقل.
- استخدام المقاومة بشكلٍ كبير لوسائط الحرب الالكترونية والتنصت على شبكات الإتصال الصهيونية واختراقها مرّات عديدة.
- تحقيق تفوّق كبير في الحرب الإعلامية للمرّة الأولى عبر الصراع العربي-الصهيوني، وشنّ حربٍ نفسيةٍ على مستويات عالية من خلال وسائل الإعلام وعبر شبكات الانترنت.
- إلزام قيادة الكيان الصهيوني على تشكيل لجنة قضائية سميّت بلجنة فينوغراد، استغرقت أشهرًا طويلة وهي تفتش عن عبارة مناسبة غير كلمة الهزيمة، ليستقرّ أعضاؤها أخيرًا على كلمة إخفاق وهي مصطلح مخفّف لمصطلح الهزيمة.
ثانيًا: النموذج الفلسطيني الحالي للمقاومة يكاد يكون نسخة معدّلّة عن المقاومة اللبنانية إبّان عدوان 2006، في أغلب جوانبه سواء في أنواع الصواريخ أو الأساليب أو النتائج، مع فوارق مرتبطة بمساحة قطاع غزة وإمكانيات الحركة والمناورة، مع إضافات هامّة لأساليب استخدام وإطلاق الصواريخ والعمليات الخاصّة استخلصت عبرها من مواجهة 2006 في لبنان وتمّ نقلها الى فلسطين، كما تمّ تجهيز وتدريب وتسليح المقاومة بالسلاح والتكنولوجيا المرتبطة بالصواريخ وطائرات الاستطلاع بدون طيار. ففي غزّة نشاهد هذه الأيام استخدامًا واسعًا لصواريخ فئة فجر بأعداد كبيرة وصلت حدود الـ150 صاروخ في 13 يومًا، فيما لم يصل عدد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة اللبنانية خلال 33 يومًا من هذه الفئة الى أكثر من 50 صاروخًا، إضافةً الى أنّ المقاومة الفلسطينية أطلقت في 13 يومًا 1500 صاروخ من فئة GRAD المختلفة، وهو نفس العدد الذي أطلقته المقاومة اللبنانية في 33 يومًا.
كما أننا نشهد في عمل المقاومة الفلسطينية تطورًا هامًا في العمليات بواسطة الأنفاق وخلف خطوط العدو، في السياق الهجومي الذي شهدناه في عدوان 2006 خلال العمليات الدفاعية التي قامت بها المقاومة اللبنانية.
قد يفهم البعض من هذه المقارنة أنّ المقاومة الفلسطينية أكثر قوةً وشجاعةً من المقاومة اللبنانية، فيما أنّ حقيقة الأمر هي أنّ عنايةً واهتمامًا أكبر حصلا من المقاومة الفلسطينية لأنماط وأساليب استخدمتها المقاومة اللبنانية وتمّ نقلها بالكامل الى غزّة، مع إجراء التعديلات المناسبة لطبيعة وتركيبة غزّة.
بين 2006 و2014 ثماني سنواتٍ مرّت، أوصلَت المقاومة الفلسطينية الى ما كانت عليه إمكانيات المقاومة اللبنانية، وهذا يعني أنّ المقاومة اللبنانية ومعها سورية قد قامتا بتحديث وتطوير منظمات تسليحها، وخصوصًا في مجالات الصوريخ، أرض-أرض، وأرض-بحر، والمضادة للدروع، وأيضًا صواريخ أرض-جو.
لم يعد خافيًا أنّ سورية والمقاومة اللبنانية تمتلكان آلاف الصواريخ من فئة فاتح 110 وM 600، التي يتراوح مداها بين 250 و300 كلم وتحمل رؤوسًا متفجرة بين 500 و800 كلغ وتمتاز بدقة إصاباتها.
المعركة القادمة ستكون معركة تدمير البنية الأساسية لكيان العدو وزعزعة استقراره وإمكانية استمراره في الوجود.
قد يعتبرني البعض مفرطًا في التفاؤل، وقد يعتبرني البعض الآخر مجذفًا وغير واقعي.
عندما نتحدث عن الاستراتيجية فإننا نتحدث عن سنين وليس أشهرًا أو أيام، وما حصل في لبنان خلال عدوان تموز 2006 ويحصل الآن في غزة هو معارك ما قبل زوال الكيان الصهيوني.
من لا يعرف علم الاستراتيجية بالتأكيد لن يعتبر الأمر جدّيًا بالنظر الى ما تشهده المنطقة من صراعات ومعارك وفتك وإجرام.
إنها معالم المعركة الكبرى التي سيكون للكيان الصهيوني النصيب الأكبر من نتائجها، إنها ملامح رسم شرق أوسط جديد يصنعه مقاومو غزة ولبنان ومعهم جنود الجيش العربي السوري في الميدان. إنها معركة الإرادة الواحدة والجبهة الواحدة في مواجهة عدو واحد وهجمة موحّدة.
وما نشهده اليوم في غزة وما شهدناه في لبنان يعود الفضل فيه الى صاحب نظرية الصواريخ لتحقيق توازن الرعب، الرئيس الراحل حافظ الأسد، سواء كان القارئ من محبيه أو من مبغضيه.
*ضابط سابق (خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية)
سلاب نيوز
- «الأمر لك» يا عماد... من طهران إلى غزّة!
- مجزرة حقل شاعر للغاز.. لماذا حدثت ؟
- المنطقة تشتعل هل فُتِح صندوق «بيندورا»؟
- بالفيديو حزب الله والجيش السوري يقصفون براجمات الصواريخ مواقع المسلحين
- لوس أنجلوس تايمز: المسلحون في سوريا منهكون و يتركون القتال
- الحروب القذرة .. أم " الحروب المقدسة "
- الأردن والأزمة السورية: قلق متنام من شبح التقسيم
- لماذا أعطيت الاوامر بإشعال المنطقة؟
- يجب ان تزول “إسرائيل” من الوجود
No comments:
Post a Comment