من يريد طلاء الشمس باللون الأسود أو يسدل عليها النقاب الشرعي ليطمس النهار ويمنح الليل سلطة مطلقة على الزمان فانه لايظلم الشمس بل يظلم عينيه ويظلم الليل ..
ومن يريد أن يربط الشمس بالسلاسل ويجرها بالحبال الى مساكن الدجى كيلا تشرق الا متى يشاء وكي يبقى نقاب الليل على وجه الصباح فانه يجهل أنه هو الذي يدور حول الشمس ..
ومن يحبس العطر في زجاجات ويقص أجنحته ولايسبح في غماماته فانه يظلم نفسه ولايظلم أجنحة العطر ولاغماماته .. ومن يعتقد أن النفط يصير مسكا عندما يحفظ في قارورة عطر فانه مصاب بالوهم .. وواهم أكثر من يظن أن الدم يصبح نبيذا عندما يخزن في زجاجات الخمر .. وأن الماء يصير حبرا اذا ماسكن جوف القلم ..
ولكن هذا الزمن مليئ بالواهمين والأوهام .. اولئك الذين يعتقدون أنهم يعتقدون أنهم ساسة وجهابذة لأنهم يملكون دكاكين أو بسطات أرصفة في شوارع السياسة الدولية .. وأولئك الذين يتبوؤون كراسي الزعامات والقيادات وهم يظنون أنهم يمكن ان يلونوا الشمس باللون الذي يريدون ويربطونها على أية ناصية .. انه زمن الأوهام .. ومن يريد أن يرى الأوهام فلينظر الى عين العرب .. السورية ..ففي هذه المدينة السورية الحدودية نزلت الأوهام لملاقاة الأوهام ..
قد تغير عين العرب اسمها ليصبح “عين الأوهام” ..فهي تشهد حرب الأوهام مع الأوهام من أجل الأوهام .. فالكل يريد أن يبدأ أوهامه من هذه المدينة بعد أن تكسرت كل الأحلام الجميلة ولذلك تجد ان هناك قدرا كبيرا من التخبط واللاأدرية في كل مايقال عن هذه المعركة .. ويبدو الجميع واقفين حائرين .. وكل واحد يرى أنه ليس على يقين من دقة تقديراته وتصوراته وغير قادر على اتخاذ القرار الصحيح .. فالأتراك العثمانيون يريدونها مفتاحا لجدار موصد أمامهم منذ أربع سنوات يمنعهم من الانسياب نحو الجنوب .. ولذلك فقد حشدوا وشمروا عن سواعدهم ودباباتهم وكتائبهم ولديهم خطة للدخول وليس لديهم خطة للخروج الا بعد 400 سنة !! .. ولكن الخلاصة التي قرعت مكتب أردوغان من بعض أقرب مستشاريه كانت في منتهى القسوة فهي تقول: ان دخول والتحدي وحملها ديبلوماسي رفيع تقول: “ان عليكم دخول فيينا قبل عين العرب .. لأن دخول فيينا أسهل على الأتراك من الدخول الى عين العرب السورية” .. وهذا تذكير مؤلم لفشل حلم تركي في اجتياح فيينا يوما وارتدادهم عن أسوارها بعد حصارها عام 1683.. فليس مسموحا لهم بتجاوز الحدود في عين العرب والا كسرت أنوفهم فيها وطحنتهم حرب اقليمية لايجرؤون عليها .. وبذلك تتحول عين العرب تدريجيا الى عقدة فيينا .. وهناك على الحدود قبع الوهم التركي منتظرا معجزة السماء .. ورحمة الناتو الذي لايبدو مكترثا بذكريات تركيا الحزينة على أسوار فيينا قديما ..
ولكن نحو عين العرب يتقدم الوهم التركي الثاني بقيادة داعش .. ويحسب هذا الوهم أن داعش سيفتح لتركيا أبواب الشمال السوري من داخل القلعة ومن بوابة “عين العرب” بالذات ..ومن ثقبها سيموت الوطن القومي الكردي في تركيا ومن ثقبها ستزول سورية الدولة تدريجيا .. فالمدينة اما أن تفتح بداعش من الداخل أو بالجيش التركي من الخارج ..
وبين الوهمين يتسلى وهم ثالث هو وهم مسعود البرزاني بأن التمدد الكردي البرزاني نحو البحر المتوسط سيبدأ من عين العرب التي سيفتحها له أردوغان أو الأمريكيون الذين سيحررونها من داعش كما حرروا أربيل من صدام حسين وأهدوها له .. وفوق أكتاف هذا الوهم ينبت وهم أن تستمر عائلة البرزاني كأسطورة كردية مثل أسطورة كاوا الحداد ويوم النيروز .. فقد يصبح للأكراد مسعود الحداد هو صاحب يوم نيروز آخر ..
وبين هذه الاوهام.. وهم كبير يعتقد أن الدولة السورية لاتستطيع انقاذ عين العرب .. وتجد أن بعض القوى الكردية تستنجد بالغرب والأميريكيين لأن هناك من يقنعهم أن لامنقذ لهم الا الغرب وفي عيون هذا الوهم وعد بأن يسلم الأكراد كل أوراقهم الى الناتو ليسلمهم استقلالا “على المفتاح” كما يتم تعهد مشاريع البناء .. الأكراد يدفعون ولاء مطلقا والغرب يسلمهم وطنا بالمفتاح ..
لكن الغرب حائر فيما يفعل .. فهو لايريد انقاذهم لأن ذلك يخيف تركيا كثيرا ويصبح التركي عصبيا وهستيريا وفاقدا لاتزانه ويفقد السيطرة على هدوئه وانضباطه بمجرد ان يقال ان الغرب ينظر بعين العطف الى مأساة الأكراد السوريين ويدعم استقلالهم .. فهذا يعني اقتراب السكين الكردية من عنق تركيا في أمد منظور .. وبين تركيا والأكراد قاعدة تركية صارمة واحدة هي: اما نحن واما هم .. فقط ..
والغرب كذلك اذا كان لايريد اغضاب تركيا فانه في نفس الوقت لايريد للأكراد أن يسحقوا تماما .. ليس حبا بهم بل من قاعدة سياسية انتهازية تجد أن على الغرب أن يبقي بيده اوراقا لابتزاز الشعوب جميعا .. ولايستثنى الحلفاء أيضا من هذه القاعدة اذا ما تلاعبوا بذيلهم .. وهو أسلوب بريطاني بحت يظهر في ترك بؤر للابتزاز مثل كشمير بين الهند وباكستان .. وقبرص التركية واليونانية .. وتيمور الشرقية .. وفلسطين .. ففن السياسة الامريكية هو ألا تعطي الحليف كل شيء وان تبقي في عنقه قيدا لايمكنه من الاستقلال عنك .. لأن صاحب الكلب يجب أن يبقي الكلب مقيدا والا خرج عن سيطرته حتى وان كان كلبا وفيا .. ولذلك فانك تجد أن العلاقة الاميريكية مع كل دول اوروبا قائمة أساسا على هذه القاعدة .. فبالرغم من التناغم بين اميريكا وبريطانيا فان الاميريكيين لم يترددوا في تهديد البريطانيين (حلفائهم) وابتزازهم أثناء ازمة السويس بضرب الجنيه الاسترليني ان لم يتراجعوا لأن الامريكيين وجدوا أن الوقت قد حان لاخراج البريطانيين من الشرق الاوسط والحلول محلهم .. وبالفعل بدأ بنك انكلترا يعاني تراجعا كبيرا في احتياطيات الدولار والذهب مما اضطر البريطانيين لقبول الشرط الاميركي للمساعدة في انقاذ الجنيه والاقتصاد البريطاني وانسحبوا من السويس .. بل ان اسرائيل الدولة المدللة تعطيها الولايات المتحدة كل طائراتها المقاتلة المتطورة دون ان تمنحها الشيفرة التي تبرمج تلك الطائرات لتبقى سرا من الأسرار التي تتحكم بالقوة الجوية الاسرائيلية .. حتى اسرائيل لايسمح لها باللعب بذيلها .. وماكشفه ادوارد سنودن من تجسس الاميركيين على حلفائهم الاوروبيين هو في الحقيقة دليل على أن الاميركيين لايثقون بوفاء أحد ويريدون ان يمسكوا الجميع من الأعناق وربطهم كما تربط الكلاب .. حتى لو كانوا حلفاء أوفياء ..
ولذلك لاتريد اميريكا منح تركيا القوة المطلقة على القضية الكردية في سورية ولاحتى داخل تركيا .. لأن الورقة الكردية أيضا عامل من عوامل ابتزاز تركيا الحليف ويمكن تحويل القضية الكردية في تركيا الى بقرة حلوب للحصول على مواقف تركية في جبهات أخرى .. وخاصة اذا ماحدث تغيير ما في تركيا يوما فان اللغم الكردي ستنزع الولايات المتحدة صاعقه ..
وهنا يبرز البرود الغربي تجاه المنطقة العازلة التركية في الشمال السوري ليس لأن ذلك سيعكر مزاج الروس والايرانيين فقط ويدفعهم للرد بطريقة غير ودية اطلاقا ويدفع السوريين لاستثمار هذا الجو اللاودي لاستدراج الغرب الى مشكلة ليس مستعدا لها .. ولكن من الأسباب القوية ايضا هو ان ذلك سيعني أن الأتراك ستكون لهم القوة المطلقة على الملف الكردي السوري ومنه يضبطون الملف الكردي التركي كثيرا وحتى البرزاني الغبي سيجد نفسه تحت النفوذ التركي اكثر من الاميركي .. ويفقد الغرب بالتدريج خلال سنوات هذه الورقة الكردية التي يبتز بها الحليف التركي من وقت لآخر ..ولذلك نجد أن الاعلام الغربي يصور المقاتلين الكرد على أنهم مقاتلو حرية في عين العرب وهو بذلك يعاند تركيا ويجعلها فاقدة لأعصابها .. وفي نفس الوقت يترك هذه الصورة عن المقاتلين الأكراد لحساباته القادمة في المستقبل .. والدهاء الأمريكي انه لن يعطي الأكراد كل شيء بل سيترك لهم منغصا دائما يبتزهم به بنفس الطريقة ..
الحقيقة التي تصدم البعض هو أن القوة الوحيدة المؤهلة والقادرة على انقاذ عين العرب هي قوة وحيدة في المنطقة .. وهي قوة الجيش السوري الذي تحاول بعض القوى الكردية التي تراهن على الغرب وهي مرتبطة بمسعود البرزاني الترويج انه غير قادر على التدخل وهذا الترويج لهذه المقول يراد به دفع الأكراد لتقديم ثمن باهظ للغرب أو تركيا يستفيد منه البرزانيون فقط .. وهم يبنون تصوراتهم وآراءهم ودعايتهم على أن داعش تمددت في الطبقة والرقة دون أن يوقفها الجيش السوري رغم أن اصغر محلل عسكري يعرف أن القوة الصغيرة التي تم سحبها من هذه المناطق واعادة انتشارها كانت لأسباب متعلقة بعدم الجدوى من القتال في جزر منعزلة .. ويبدو كل الضجيج عن انتصارات داعش قليل الأدلة ومبالغا به غالبا لاحراج الجيش السوري لارغامه تحت الضغط الاعلامي على شرح استراتيجيته للجمهور علنا وتغيير اولويات تحركاته السرية في منطقة الجزيرة وتحالفاته مع العشائر العربية والقوى الكردية الوطنية .. وهذا التضخيم الاعلامي تكتيك نفسي معروف بالتضخيم من خسارة الخصم لارغامه تحت ضغط جمهوره على الاعتراف بتكتيكاته كما كان الاميريكون يفعلون مع اليابانيين في الحرب العالمية .. فعقب كل غارة تقتل بضع عشرات من المدنيين اليابانيين يشيع الاعلام الاميركي أن الجيش الياباني لم يرد وترك عشرات آلاف الضحايا المدنيين يموتون تحت نيران الاميركيين فيضطر اليابانيون تحت ضغط الحماسة الوطنية والاحباط العام لشرح الخسائر بدقة وشرح سبب سكوت الجيش الياباني لاستدراج الجيش الاميركي الى كمين قاتل .. فيكشف الاميريكون التكتيكات العسكرية للعدو ..وهو نفس الضغط الذي اعتمدته وسائل الاعلام الغربية ابان الحرب العراقية الايرانية وقيل فيها أن الايرانيين خسروا في معركة واحدة 13900 قتيل .. واضطر الجيش الايراني لابراز تقاريره من الجبهة التي أقرت باصابة قرابة ألف جندي بالسلاح الكيماوي العراقي ..
السياسة الحصيفة لمحور سورية تنازل اليوم سياسة الوهم في محاور الوهم .. وتريد ان تتكسر الأوهام على الأوهام في عين العرب أولا .. الوهم التركي .. والوهم الداعشي .. والوهم الغربي .. والوهم الكردي البرزاني بأن المنقذ والمخلص هو الغرب وتركيا .. وعندها سيدرك الجميع من هو اللاعب الرئيسي في هذه المعركة .. وسيهرول كثيرون لاستقباله ورفع راياته ..
في عين العرب تكتشف تركيا تدريجيا أنها تشاهد سيناريو فيينا المر .. ولكن ليس في أوروبة بل في الجنوب .. وان معضلتها في عين العرب مزدوجة .. فان تركتها لداعش لتعمل فيها السيف والاغتصاب فانها تشعل مشاعر أكراد تركيا كالبارود لأن الجميع صار مدركا ان داعش هي ميليشيا بيد تركيا وستكون عين العرب بالنسبة للأكراد درسا تركيا يلقيه عليهم فلاسفة حزب العدالة والتنمية لتؤدبهم بقسوة كي لايفكروا باغضابها في المستقبل .. وهذا بحد ذاته حرب على الحلم الكردي خارج تركيا قبل أن تبدأ الحرب عليه داخلها ..
وان لم تدخل تركيا الى عين العرب وتحطمت هيبة داعش فانها نكسة خطيرة لمشروعها وخاصة اذا ماظهر للأكراد من تلكؤ غربي في تحطيم هجوم داعش .. والكارثة اذا ماطلب الأكراد بشكل اجماع كامل من الجيش السوري أن يتدخل مع حلفائه ليسحب البساط نهائيا من تحت المعارضة السورية التي تزايد على الأكراد واستدرجت بعضهم الى أوهامها حتى أوقعت بعضعم في المزادات الدولية وحاولت سحبهم من الوطن السوري ثم تركتهم في العراء .. يواجهون الرياح ..
عين العرب قد تكشف للأكراد تدريجيا أن الغرب يريد استعمالهم وابتزازهم .. وأنهم لايساوون له شيئا في موازينه الا بيضة قبان في العلاقات الدولية والمصالح ..
في عين العرب ليست الأوهام فقط من يناطح الأوهام بل تنهض الأساطير لتصارع الأساطير .. حيث أسطورة ابناء الذئبة الشهباء تتقاتل مع اسطورة ابناء كاوا الحداد .. فالأسطورة التي تفسر أصول العرق والقومية التركية هي أسطورة الذئبة الشهباء .. وفي تلك الاسطورة قام جيش الملك لين بقتل جميع عشيرة الأتراك ولم يبق منهم الا صبي صغير تركي قطع جنود لين يديه ورجليه ورموه في مستنقع ليموت ببطء .. ولكن ذئبة شهباء انتشلته من المستنقع ولعقت جراحه حتى شفيت وأرضعته حليب الذئاب حتى بلغ .. ثم تزوجته وانجبت منه عشرة ابناء .. كانوا هم سلالة التركي الأخير الذين انتقموا من الملك لين .. ووصلنا الى ذريتهم في أتراك اليوم .. أبناء الذئبة الشهباء ..
ولكن للأكراد اسطورتهم التي تقاتل الذئبة الشهباء .. هي اسطورة كاوا الحداد التي تقول ان الملك ازدهاك أصابته لعنة من السماء فنبت ثعبانان على كتفيه .. وكانا عندما يجوعان يسببان له الما فظيعا فأوصاه الأطباء بأن يأكل دماغي شابين كرديين كل يوم ليهدأ الثعبانان .. وكان الملك يقتل كل يوم اثنين من أبناء الكرد .. ومن بين ضحاياه كان أبناء كاوا الحداد الذي قتل أزدهاك أولاده الست عشرة .. ولما جاء الدور على ابنته الباقية أرسل كاوا بدلا من دماغها دماغ خروف ثم فر بهل وخبأها في الجبال .. وتبعه في تلك المنجاة الكثيرون من الكرد الذين ارسلوا ابناءهم الى الجبال حتى كثروا وهجموا على أزدهاك السفاح وقتلوه مع ثعبانيه ..
اليوم ابن الذئبة الشهباء رجب طيب “أزدهاك” يريد أن يأكل شباب الأكراد وحلم الأكراد بثعابين داعش .. فهل ينهض له كاوا الحداد وأبناؤه؟؟ ..
وبينما تتقاتل الاساطير مع الأساطير فاننا لانعبأ بها ولابالغبار المنبعث من تحت حوافرها ولابالشرر المتطاير من بين قرونها المتصادمة كالنيازك .. لأن لدينا مدرسة سياسية ومدرسة عسكرية تصنع الجيش السوري الذي لايكترث بالأساطير بل بالواقع والتاريخ والجغرافيا .. والتاريخ يقول بأن كل مايحيط بتركيا هو مدن من عيار فيينا .. الجيش السوري أحال كل مكان يريده الأتراك الى فيينا لاتقتحم .. وهو يريد أن يرى السلاطين بأعينهم أسوار فيينا في أسوار عين العرب ..
فمن لعنة فيينا .. الى لعنة عين العرب .. السورية .. هذا هو قدر أبناء الذئبة الشهباء .. وأبناء رجب طيب أزدهاك ..
نارام سرجون
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment