في مثل هذه الأيام منذ قرابة الـ 60 عاماً، وقف زعيم لم يتجاوز وقتها الأربعين ربيعاً من عمره، في قلب دمشق، ليعلن عن قيام “الجمهورية العربية المتحدة”. الزعيم الشاب بمعايير الزمن وقتها كان جمال عبدالناصر، والزمان كان يوم 22-2-1958، والحدث هو اتحاد دولتين كبيرتين هما مصر وسوريا.
الحدث الذى يسميه البعض بالتجربة، استمر ثلاث سنوات وسبعة أشهر وستة أيام، لأنه ولأهميته القومية وخطورته على أعداء الدولتين تم الانقضاض عليه بانقلاب عسكري في 28-9-1961.اليوم وفي ذكرى هذا الحدث القومي الكبير لم يعد يفيد لطم الخدود، أو جلد الذات، واجترار الحلم، لكن ما يفيد حقاً هو استخلاص العبرة والدرس وفهمه في إطار المتغيرات الجديدة التى تعصف بالمنطقة العربية سواء من داخلها أو من خارجها، فماذا تقول دروس التجربة الرائعة وربما اليتيمة للوحدة المصرية السورية؟
هذا هو السؤال الذي توجهت به فى محاضرتي إلى الحضور في الندوة الاستراتيجية المهمة التي عقدها اتحاد المحامين العرب في مقره بالقاهرة يوم الاثنين 27-2-2017، وكانت إجاباتي وتأملاتي حوله هي الآتية :
أولاً : لعل أول الدروس وأبلغها أن أي وحدةٍ عربيةٍ حقيقية، تقوم على مقاومة الكيان الصهيوني ومن خلفه الحلفاء الغربيين والخليجيين، هي الوحدة الصحيحة ولذلك لن تكون مرحب بها من قبل هؤلاء الحلفاء؛ بل هي مرفوضة ومطلوب مقاومتها حتى تسقط، وأن الأولى دائماً بالرفض والمحاربة لدى هؤلاء هو مقاومة أي تقارب بين سوريا ومصر تحديداً. هكذا تقول سطور التاريخ وتجاربه منذ إسقاط أول وحدة عربية حديثة بين مصر وسوريا في زمن عبدالناصر وشكرى القوتلي. لماذا؟ لأن هاتين الدولتين تحديداً اللتان تمتلكان الإمكانات والقدرات الاقتصادية والسياسية والبشرية والتاريخية التي تؤهلهما – إذا ما اتحدتا – لإحداث تغيير نوعي واستراتيجي في المنطقة، وهذا ما يخيف الأعداء ويفرض عليهم دوراً عاجلاً لتفكيك هكذا وحدة، ومنع قيامها مستقبلاً بكافة السبل.
ثانياً : الدرس الثاني من دروس الوحدة المصرية-السورية أن الوحدة بين الدول المهمة في وطننا العربي -وبخاصة مصر وسوريا- لا تأتي أؤكلها، ولا تصمد على البقاء، إلا بوحدة سابقة وواسعة بين قوى المجتمع الحية في كلتا الدولتين، وليس بقرارٍ رئاسي يتخذه قادة مخلصون في قامة عبدالناصر؛ لا يشك أحد خاصة اليوم بصدق ونبل مقاصدهم الوحدوية، لكن بقاء الوحدة وقوتها كان سيكون أشد متانةً لو كان قد سبقه التمهيد الشعبي الواسع بين الهيئات والقوى والفاعليات، ساعتها سيكون إسقاط الوحدة التي ستعلن لاحقاً، قراراً وفعلاً عصياً على التحقيق، وهذا درس تاريخي بليغ نحتاج إليه اليوم فى ظل إحباط التجارب الوحدوية وفشلها، لأنها قامت على الفرد وبالفرد وإلى الفرد، ولم تذهب إلى الجميع حيث الشعب هو السند والحصن العصي على الهزيمة.
ثالثاً: إن ما تتعرض له سوريا ومصر اليوم من تحدي “الإرهاب المعولم” الملتحف زيفاً باسم الدين أو “الثورة” وهما منه براء، ومن تحدي العدوان الصهيوني العلني والمستتر رغم اتفاقات السلام الزائف؛ يستدعي درس الوحدة وضرورتها، فالعدو أضحى اليوم، عدواً واحداً، وهو ما ينبغى له أن يفرض على سوريا ومصر على التوحد ثانية على أرضية مقاومة حلف دولي وإقليمي من “الأشرار” – وفق تعبيرات الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي – والوحدة هذه المرة، لا تكون بمعسول القول أو بقراراتٍ فوقية، بل بلحمةٍ وطنيةٍ وشعبيةٍ وعسكريةٍ واسعة، لا تخضع، وهنا الأهم، لاعتبارات خليجية إقليمية تقوم على ابتزازٍ سعودي لأزمات مصر الاقتصادية لكي تمنعها من هكذا وحدة، كما هو معلوم، الأمر هنا بات يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري الذي ارتبط تاريخياً بالأمن القومي السوري، فالتحدي الإرهابي من “داعش” وأخواتها، وتحالفهم الضمني والمسكوت عنه مع مخابرات الكيان الصهيوني، سواء تم ذلك في الجولان، حلب، حمص، أو تم في سيناء المصرية، فإنه بات يمثل منظومةً واحدة من الأعداء ومن “حلف الأشرار” وهو حلف السعودية وقطر وتركيا ليسوا بعيدين عنه ومن الخطأ الصمت عنه أو القبول به وبابتزازه المستمر مما يُشل فاعلية الأيدي المصرية ويحول مصر إلى رقمٍ صغير للغاية في معادلات القوة في الإقليم والعالم.إن تحدي الإرهاب وإسرائيل، يفرض اليوم على مصر وسوريا، إعادة تجربة الوحدة، بلغةٍ جديدةٍ وبآليات عملٍ جديدة تقوم على تحريك واسع لقوى المجتمع وللجيش الوطني في كلتا الدولتين ضد هذا الحلف الغربي–الخليجي–الصهيوني.
رابعاً: يحدثنا التاريخ أن أحد أبرز أسباب الوحدة السورية-المصرية عام 1958 هو العدوان الثلاثي
على مصر بعد معركة تأميم قناة السويس، وتحرك الشعب العربي في غالب البلاد العربية للهتاف باسم مصر وبثورة جمال عبدالناصر، وكان الشعب السوري في طليعة تلك الشعوب وكان الأكثر دعوةً إلى ضرورة الوحدة حتى لا يتكرر العدوان، وتواكب هذا السبب مع إنشاء “حلف بغداد” وزيادة الأطماع والحشود التركية العدوانية على سوريا، مما دعا مصر عبدالناصر للتحرك والوقوف وبقوة إلى جانب سوريا، اليوم يأتي ذات الأعداء ليحفزوا جيش مصر وشعبها كي يعجلوا بالوحدة، فإن لم يكن، فعلى الأقل بالتنسيق والدعم لسوريا في مواجهة هذا الحلف الجديد، الذي يقوده نفس أعداء الأمس (تركيا–إسرائيل–السعودية) ومن خلفهم واشنطن وبعض العواصم الغربية. فهل تستجيب القيادة المصرية وتنقذ نفسها قبل أن تنقذ سوريا؟
إن قتل المسيحيين الأقباط قبل أيام في العريش على أيدى تنظيم “داعش”-ولاية سيناء، كأحدث جرائم هذا التنظيم وهي جرائم قائمتها عديدة وطويلة (منذ 2011 وحتى 2017). هذه الجريمة الأخيرة ليست الأيدي والأموال القطرية والسعودية والتركية وطبعاً الإسرائيلية ببعيدةٍ عنها، وبقليلٍ من التحري الأمني والاستخباراتي الدقيق سنجد تفاصيل مثيرة ومذهلة لدور تلك الدول في سيناء، وهي ذاتها الدول التى أدمت سوريا طيلة السنوات الست الماضية؛ باسم “الربيع العربي”، وهي نفسها التي وقفت ضد الوحدة المصرية-السورية قبل ستين عاماً. إن الأمر ليس صدفةً تاريخية بل هو استراتيجيات ومصالح تعيد إنتاج نفسها؛ الأمر الذي يفرض علينا إعادة طرح السؤال: هل نترك مواجهة هذا “الإرهاب” بدون وحدة وتنسيق واسعين بين مصر وسوريا؟
خامساً: من صدف الأقدار وربما من حقائقه الثابتة أن الاتحاد السوفياتي السابق، والذي ورثت قوته النووية والسياسية روسيا–بوتين، كان يقف وبقوةٍ مسانداً الوحدة المصرية-السورية عام 1958، ودعمها بالسلاح وبالسياسة وكان حليفاً لعبدالناصر وللقوى التقدمية في سوريا في ذلك الزمان، واليوم وسوريا ومصر تخوضان معركة مع “الإرهاب المعولم” تقف روسيا معهما ليس بالمساندة السياسية فحسب بل بالدعم العسكري الواسع، وهي إن شئنا الإنصاف ليست صدفةً تاريخية بل مصالح استراتيجية مشتركة فرضها وجود أعداء مشتركين لروسيا في المنطقة والعالم، شاءت الظروف أن يتواجدوا ويدعموا الإرهاب في بلادنا، فما كان من روسيا إلا أن انحازت للدولة في كلٍ من مصر وسوريا في مواجهة هذا الإرهاب .
إن هذا يدعو اليوم كل من مصر وسوريا إلى تقوية العلاقات الاستراتيجية مع روسيا وتطوير آليات الصداقة معها سياسياً واقتصادياً وشعبياً، فمعسكر الأعداء واحد، والقواسم المشتركة في مواجهته وفي بناء التقدم والنهضة، أكثر اليوم مما كانت بالأمس. وهذا أحد أبرز دروس الوحدة السورية المصرية، التي علينا أن نتذكرها ونعمل بها.
ختاماً: سبق أن كتبنا في هذا المقام دراسةً عن تاريخية العلاقات المصرية–السورية ووضعنا لها عنواناً كان هو الشطر الثاني من بيت شعر من القصيدة الأشهر لأمير الشعراء العرب أحمد شوقى والذي يقول:
“جزاكم ذو الجلال بني دمشق .. وعز الشرق أوله دمشق”.
اليوم نعيد التذكير بهذا البيت وبدلالاته المعاصرة والجديدة ونعيد التأكيد في ذكرى الوحدة المصرية-السورية أن عبدالناصر عندما وقف ليعلن الوحدة قال مازجاً بين اللغة العربية واللهجة العامية المصرية:
“إنني أشعر الآن وأنا بينكم بأسعد لحظةٍ من حياتي، فقد كنت دائماً أنظر إلى دمشق وإليكم وإلى سوريا، وأترقب اليوم الذي أقابلكم فيه والنهارده .. النهارده أزور سوريا قلب العروبة النابض، سوريا اللي حملت راية القومية العربية. سوريا اللي كانت دائماً تنادي بالقومية العربية. سوريا اللي كانت دائماً تتفاعل من عميق القلب مع العرب في كل مكان، واليوم أيها الأخوة المواطنون، حقق الله هذا الأمل، ألتقي معكم في هذا اليوم الخالد بعد أن تحققت الجمهورية العربية المتحدة “.
ولا نزيد على قول عبدالناصر لكننا نسأل: وسط هذه الأمواج العاصفة من التحديات الإرهابية والصهيونية، متى يزور عبدالناصر ثانية دمشق؟
بعبارةٍ أوضح متى تدرك “قاهرة-السيسى” أن عزها بل وعز الشرق كله أوله دمشق؟ سؤال ينتظر الإجابة.
No comments:
Post a Comment