لا يمكن لأي عاقل او متابع لمسار الأحداث التي يتفاقم تأزمها وتزداد تعقيداتها وتنبئ بالأسوأ والأخطر أن يضع استقالة وزير الخارجية والمغتربين الدكتور ناصيف حتي في خانة البراءة، او يقتنع بالأسباب السطحية والفارغة من ايّ مضمون سياسي او وطني او شخصي. لقد أقدم على اتخاذ هذا القرار وهو يدرك جيداً الواقع المأزوم في لبنان اقتصادياً ومالياً ومعيشياً وصحياً، وانسداد آفاق المعالجات والحلول، والأخطار القائمة والداهمة والخلايا الإرهابية النائمة وترقب صدور قرار المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والخشية من حصول تداعيات خطيرة على الداخل اللبناني تحضّر لها قوى وخلايا مدعومة من الخارج لإحداث فتنة مذهبية لا تبقي ولا تذرّ متذرّعة بقرار المحكمة الدولية لتنفيذ أجندتها المرسومة والمخطط لها سلفاً وعن سابق إصرار وتصميم.
ولماذا تأخر في تقديم استقالته مع انّ ما يجري الحديث عنه لتبريرها موجود منذ تعيينه وزيراً ولم يشتك يوماً من التهميش والإقصاء عن اتخاذه القرارات المتعلقة بوزارته او انه مراقب في داخل وزارته وحتى مكتبه، وكان بإمكانه إعادة بناء هيكلية الوزارة بالطريقة التي تناسبه وهذا من حقه.
فهل كان خائفاً مثلاً على إقالته من الوزارة إذا أغضب من اختاره وزيراً في الحكومة ووزيراً للخارجية؟ وحده يتحمّل نتائج تهاونه في عدم فرض ما تسمح به الأنظمة والقوانين المعمول بها، وبالتالي كان عليه فرض شخصيته وهيبته كوزير يملك الصلاحيات في إدارة شؤون وزارته الداخلية وهو المشهود له بخبرته الديبلوماسية على مدى أربعين سنة ونظافة كفه ووطنيته. ولكن توقيت تقديم استقالته التي جاءت بعد زيارة أوروبية قام بها، وبعد لقائه وزير الخارجية الفرنسي، وعشية صدور قرار المحكمة الدولية… وقائع طرحت علامات استفهام وتساؤل ورجحت كفة الذين اعتبروها أنها غير بريئة خاصة في هذا التوقيت.
انّ استقالة الوزير حتي كانت تعتبر عادية في ظروف مختلفة لأنه من حق ايّ وزير ان يستقيل او حتى من الممكن أن يُقال من الحكومة، ولكن القوى السياسية في هذا البلد التي اعتادت على السجالات العقيمة وتجعل من «الحبة قبة» حوّلت هذه الاستقالة الى قضية وطنية يجب تدارك مفاعيلها وكأنها انقلاب نفذه الوزير المستقيل على حكومته وعلى العهد. وقبلها كان بنظر بعض هذه القوى وقبل ساعات من إعلانها انه وزير في الحكومة الفاشلة والتابعة وفجأة تحوّل الى بطل وشجاع وكشف عيوب المستور في هذه الحكومة التي وفقهم لا تملك قرارها.
انّ تحويل هذه الاستقالة الى مادة إلهائية للرأي العام أمر مشبوه ومن ايّ جهة أتى من الموالاة والمعارضة، خاصة انّ البلد ينزلق بسرعة الى الهاوية التي ستقضي على الجميع إذا ما أصرّت القوى السياسية المتحكمة في السلطة وخارجها بمفاصل الدولة والقرار على السير بنهجها اللاوطني واللامسؤول وإشغال اللبنانيين بما لا يعنيهم مباشرة كاستقالة وزير او اكثر او إقالة وزراء وإجراء تعديل وزاري وهذا ما دعوت اليه في مقالة سابقة، لأنّ هناك وزراء في هذه الحكومة لزوم ما لا يلزم ولا دور لهم وكأنهم غير موجودين وانْ فعلوا او تكلموا أخطأوا.
انّ العيون مفتوحة على الحكومة والداعمين لها وقد تعرّضت لهزّة صغيرة كانت او كبيرة، وقد يتبعها استقالات جديدة كلما اقترب لبنان من اللهب المتصاعد في الداخل والخارج. صحيح انّ العهد والحكومة لديهما شخــصيات غبّ الطلب لتعيينهم بدلاء عن الوزراء إذا ما استقالوا أو أقيلـــوا وهذا من حقهما. غير انه من حق اللبنانيين ان تكون الحكومة على قدر المسؤولية لإنقاذهم من واقع الفقر والجوع والبــطالة والذلّ والمرض. ولا يعنيهم من قريب او بعيد من يعــيّن وزيراً ومن يســتقيل او يُقـــال ولا من غلب من في صراع المصالح بين مكونات الطبــقة السياسية التي تختلق مشاكل ونزاعات وخلافات وهمية «لتزمط بريشها».
الشعب يريد حكومة تعمل وتنتج وتواجه التحديات وتحول دون سقوط لبنان، وليس حكومة تتفرّج على معاناته ولا تملك سوى الوعود. يريد حكومة تفعل ولا تقول ولا تدخل في سوق عكاظ الاتهامات ولا تستدرج الى سجالات لا قيمة لها، يريد حكومة تصارحه بالحقيقة مهما كانت صعبة وثقيلة عليه وبقدرتها على المواجهة والمعالجة والحلول والإنقاذ، وعما اذا كانت عاجزة ومشلولة وغير قادرة على فعل ايّ شيء، عندها ليس أمامها خيار سوى الاقتداء بالوزير حتي الذي استقال او انّ الشعب يقيلها.
No comments:
Post a Comment