تكاد لا تسمع مسؤولاً في لبنان رسمياً كان أم حزبياً أو شعبياً إلا وينادي بالحرب على الفساد، ويطالب باجتثاثه وبملاحقة الفاسدين وتطهير الدولة والمجتمع منهم. صرخات ونداءات ملأت أركان لبنان ولكن شيئاً منها لم يتحقق وأمراً واحداً منها لم ينفذ.
فقد أطلق العماد ميشال عون في بداية دخوله الى المجلس النيابي ومع اشتراكه في الحكومة قبل 14 عاماً، الصرخة ووضع كتاباً لمحاربة الفساد أسماه “الإبراء المستحيل” وهو يقصد أنّ الأموال التي نهبت من الدولة والتي يستحيل تبرئة ذمة السارقين منها وتجب محاكمتهم واستعادة الأموال المنهوبة منهم، ولهذا أضاف العماد عون مصطلح “لبنان ليس فقيراً أو مفلساً بل منهوب” وأمواله منهوبة. ورغم كلّ هذا الحراك لم يصغ أحد ولم يتحرّك المعنيّون في الدولة وعلى كلّ الصعد من أجل مكافحة الإرهاب.
وفي العام 2018 خاض حزب الله معركته الانتخابية النيابية تحت شعارين مركزيين محاربة الفساد وحماية المقاومة، وعيّن بعد الانتخابات نائباً من نوابه أناط به مسؤولية ملف محاربة الفساد وتجميع الوثائق ووضعها بتصرّف السلطة المختصة للسير قدُماً بالمهمة، وبالفعل قام النائب بما عليه ووصل الى كمّ هائل من الوثائق التي تشهد على هدر المال وسرقته ونهبه ووضعها بتصرّف السلطات المختصة، أيّ القضاء، وانتظر الجميع النتائج ولكن بقيت المسيرة بلا ثمر شأنها شأن “الإبراء المستحيل”.
وعندما كان تحرك سياسي او قضائي او إداري خجول لملاحقة هذا او ذاك ممن كانت رائحة سرقاتهم تزكم الأنوف حتى ولو كان أصحابها أصيبوا بفيروس كورونا العادم لحاسة الشمّ، خرج رؤساء الطوائف بخطوطهم الحمر وألبستهم البيضاء أو السوداء أو الحمراء وحذّروا من المسّ بـ”شرف الطائفة” متناسين أو متجاهلين أنّ المال المنهوب ليس مال الطائفة أصلاً، وانّ الطائفة لم تكن هي المستفيدة مما سُرق، ولم يدخل من المنهوب قرش في جيب فقير من الطائفة، لا بل أنّ السرقات زادت من أعباء معيشة الفقراء من كلّ الطوائف بما في ذلك فقراء الطائفة ذاتها.
وتعقد الحال أيضاً بظهور الدعم للفساد والفاسدين من أمراء الطوائف السياسيين “القيّمين” على شؤون الدولة، فعندما حاولت الحكومة قبل استقالتها إقالة بعض الموظفين من متوَلّي شأن مرفق عام نظراً للكارثة التي أوقعوا لبنان وشعبه فيها، رأينا كيف احتشد الجمع مدافعاً عن هذا وذاك، وفشلت مساعي الإقالة والتصحيح، وتعاظم شأن المشكو منه حتى أضحى أكبر من الدولة وأهمّ من مجلس النواب وفوق القانون يضع القواعد القانونية التي يشاء، يعمل بشيء منها على هواه ويتخطى القسم الأكبر منها كما يريد، ويطيح بحقوق الناس وعينه جامدة لا يرفّ لها جفن لأنه مطمئن للحماية المعقدة من الداخل حماية رئيس الطائفة ومعه السياسيون المتجذّرون في السلطة، وحماية من الخارج الذي يرى فيه الأداة الملائمة لتنفيذ سياسة الهيمنة والقبض على رقاب الناس ولقمة عيشهم.
أما القضاء وهو السلطة الدستورية المعنية والمنوط بها إدانة المرتكب ومعاقبته وتبرئة الشريف وحمايته في سمعته وماله ورغم تلقيه الإخبارات الهائلة والوثائق والملفات الضخمة، فإنه لم يظهر تحركاً كافياً لطمأنة الناس وتصرّف بشكل ظهر فيه في أكثر من موقع وحالة متهيّباً من التصدي للمأساة ما جعله يتلقى ويضع اليد على الملفات من دون أن يتفاعل أو يفعل أو يتصرف وفقاً لصلاحياته، استنكاف يأتي إما لضغط سياسي أو لخوف ذاتيّ أو لقصور أو… المهمّ أنه لم يشفَ غليل المطالبين بملاحقة الفاسدين لا بل خيّب ظنّ الكثيرين من المعوّلين عليه خاصة أولئك الذين يرون فيه الطريق الإجباري الوحيد لمحاربة الفساد.
وقبل أن أختم هذا العرض لا يفوتني أن أذكر مسرحيات التحقيق المالي الجنائي في مصرف لبنان، وهو بحقّ المدخل الطبيعي لمعرفة تشعّبات هدر المال العام لكون مصرف لبنان يقبض على عقدة الطرق الرئيسية التي تمرّ فيها حركة الأموال العامة والخاصة، ويمكن في أيام قليلة لو صدقت النيات وتمّ التعاون، يمكن الوصول الى نتائج واضحة حول ذلك، لكن محترفي نهب المال العام مارسوا احترافهم ضدّ هذا المسار وبدل ان يسهّلوا التحقيق الجنائي في مصرف لبنان أصرّوا على ربط ذلك بتحقيق جنائي عام يبدأ بقرش المختار وينتهي بمصرف لبنان، عمل لا نعتقد أنّ جهة مهما عظم شأنها بإمكانها القيام به خاصة بعد أن أصرّ المتذاكون على عبارة “التوازي” و “بالموازاة” عبارة تعني ببساطة أن لا تحقيق مالياً جنائياً في لبنان، ومَن يعِش يرَ…
هذا على الصعيد الداخلي، أما الأدهى من كل ما تقدّم فهو الوضع على الصعيد الخارجي وانتقال ملف الفساد الى يد الخارج واتخاذه مدخلاً للتدخل في لبنان، وانقلب أداة ضغط على سياسيّي لبنان ووضعت المعادلة الرهيبة “الإذعان أو العقوبات” حيث إنّ المسؤول ينهب وأميركا تهدّده بالفساد وتلزمه بالانصياع لها او تشهر سيف العقوبات بوجهه. وهنا يضطر المسؤول لحماية المال المنهوب من الدولة أن يفرط بحقوق وطنية وسيادية لترضى أميركا وتمتنع مؤقتاً عن معاقبته وتتحوّل الأموال المنهوبة إلى ورقة ابتزاز ويتضرّر لبنان وشعب لبنان من فساد المسؤول مرتين؛ الأولى، عندما نهب المال العام وعطل مرفقاً او مصلحة عامة، والثانية عندما تنازل عن السيادة وفرّط بالحقوق الوطنية لحماية ما نهب. أما الأبشع من ذلك فتجده في فتح الباب أمام الملاحقة الشاملة والانتقائية عبر تهديد البعض بلائحة العقوبات على فساد لم يرتكبوه أو لا دليل على ارتكابه يكون ذلك في سياق الابتزاز والضغط أيضاً. نقول هذا طبعاً مع رفضنا المطلق للتصرف الكيدي الأميركي، فأميركا ليست صاحبة صلاحية لتدين وتعاقب مسؤولاً لبنانياً مهما كانت ارتكاباته، وللقضاء والدولة اللبنانية وحدها الحق في ذلك هذا إذا تمسّكنا بالسيادة، ولكن وللأسف نجد أنّ النظرية شيء والواقع شيء آخر وهو الذي رغم رفضنا له لخروجه على القانون يستمرّ قائماً.
هذا غيض من فيض مآسي الفساد في لبنان، حيث أدّى الى تعطيل الدولة وإفلاسها وإسقاطها وتضييع حقوق المواطنين في أموالهم ثم فتح لبنان أمام التدخل الخارجي فانتهكت السيادة وقيدت الإرادات وتحوّل القسم الأكبر من المسؤولين إلى أدوات تنفيذية مسيّرة بالأمرة عن بُعد بيد الخارج عامة وأميركا خاصة، وبات الفساد مرضاً أشدّ خطراً على لبنان من كلّ ما عداه بما في ذلك الاحتلال الأجنبي.
على ضوء ما تقدّم ولأننا لا نثق بكلّ الآليات والسلوكيات المعتمدة حالياً لمحاربة الفساد خاصة أنها جُرّبت وتأكد فشلها أو عجزها أو عدم نجاعتها لأكثر من سبب واعتبار، فإننا نرى انه لا مناص من تغيير الأسلوب والوسائل لمحاربة الفساد، تغيير نراه في اعتماد ما يلي:
1
ـ إعادة تكوين السلطة على أساس قانون انتخابيّ وطنيّ عادل يأتي الى الحكم بمن يريده الشعب حقيقة وتكون الانتخابات أول حساب شعبي للفاسدين
2
ـ إنشاء قضاء استثنائي خاص لمحاربة الفساد يسمّى “قضاء النزاهة” ويكون مستقلاً قائماً بذاته الى جانب القضاء العدلي بفرعية المدني والجزائي والقضاء الإداري والقضاء المالي والقضاء العسكري إلخ… ويكون هذا القضاء من طبيعة مركبة مدنية وجزائية وإدارية وتكون العقوبات التي ينطق بها كذلك من هذه الطبيعة المركبة.
3
ـ تطوير قانون الإثراء غير المشروع الذي هو السيف الرئيسيّ الذي يستعمله “قضاء النزاهة” بحيث يتمّ التشدّد في التدابير التالية
ـ تحرك النيابة العامة في قضاء النزاهة في كلّ مرة يشتبه فيها بمرتكب، شرط أن تكون هناك أسباب جدية للملاحقة
ـ إسقاط الحصانة أيّاً كان نوعها عن أيّ ملاحَق أمام قضاء النزاهة من رتبة وزير الى رتبة حاجب شاملاً كلّ من تولى مسؤولية في وظيفة عامة
ـ كفّ يد الملاحَق من لحظة البدء بملاحقته وحتى صدور الحكم بحقه
ـ سقوط السرية المصرفية عن أيّ ملاحَق امام قضاء النزاهة مهما كان موقعه
ـ تجميد أموال الملاحَق أمام قضاء النزاهة إلا ما لزم منها لمعيشته مع عائلته
ـ التزام السرعة من دون التسرّع في المحاكمة، بحيث لا يتخطى بتّ الملف السنة الواحدة من تاريخ البدء بالملاحقة من قبل النيابة العامة او هيئة التشريع والقضايا لدى وزارة العدل.
أستاذ جامعيّ – باحث استراتيجيّ
No comments:
Post a Comment