قدمت قناة الميادين وثائقياً من حلقتين تحت عنوان الحقيقة في انفجار مرفأ بيروت، ومن عناصر تميز هذا الوثائقي درجة الحيادية العلمية التي قدمها باستبعاده لأي تحليلات وعدم استحضار خبراء وأصحاب رأي وحصره بتقديم سردية تستند فقط إلى الوثائق.
حسمت سردية الميادين الموثقة الغموض حول شحنة النترات والسفينة التي حملتها، فبات واضحاً أن الجهة المعلومة في موزمبيق هي التي اشترت النترات وبذلت جهوداً هائلة لتأمين الحصول عليها، وعندما تأكدت من تلف الشحنة بعد سنتين من الملاحقة أبلغت المعنيين بأنها لم تعد معنية بها، وكذلك السفينة التي تبدو عائدة كما بحارتها لجهة مفلسة أو قليلة الموارد أو تحكمها عقلية الابتزاز التجاري لتحصيل مبالغ تحت ضغط التوقف عن أداء المهمة، وهذا ما جاء بها إلى بيروت لتحميل شحنة معدات إلى العقبة، لكن بالحصيلة يصعب القبول بنظرية أن النترات والسفينة قد خطط سلفاً للمجيء بهما إلى بيروت، ما يجعل تقدير التفجير الناجم عن حدث عرضي للاشتعال أقرب للتصديق.
التقارير الموثقة للجانب الفني من التفجير تقاطعت بلا التباسات تلتقي على استبعاد نظرية التفجير من الخارج بصاروخ أو عبوة، وأجمعت على أن التفجير ناجم عن اشتعال بدأ مع التلحيم وتصاعد مع اشتعال المفرقعات النارية، وتباينت التقارير عند نقطة تحتاج إلى الحسم، حول الكمية التي تفجرت، حيث يقول التقريران الفرنسي والأميركي أن كمية تعادل ربع الكمية الأصلية فقط هي التي تفجرت، ما يطرح سؤالاً حول وجود تسريب أو سرقة أو استعمال لكميات منها يتيح التفكير بوجود مصلحة لمستفيدين تجارياً أو سياسياً من إبقاء النترات، بينما جاء تقرير قوى الأمن الداخلي ليقدم تفسيراً لهذا الفارق بتلف القدرة التفجيرية للنترات بسبب الإهمال وسوء التخزين ومرور الزمن والرطوبة.
سردية الميادين الموثقة تظهر حجم الاهتمام الذي تعامل من خلاله الإداريون، الذين يمكن ملاحقتهم بتهم فساد في ألف قضية، لكن في هذه القضية تبدو العقدة مستعصية أمام مراسلات مدير الجمارك السابق واللاحق، ومدير المرفأ ومدير النقل البحري، ومن خلفهما شراكة الوزراء المعنيين في المراسلات، فلا مجال للشك بأن الصد القضائي كان سيد الموقف، مرة بداعي عدم الاختصاص ومرة بداعي الحاجة لمراجعة الجيش، ومرات بالتباطؤ، بحيث لا يسارونا الشك بأن دخول النترات وبقائها كان عملاً قضائياً بامتياز، وإفشالاً لكل مسعى للمعالجة من الإدارات المعنية التي يقبع رموزها في السجن ويلاحق وزراء الوصاية عليها بتهمة القتل الاحتمالي، بينما القضاة المعنيون أحرار.
الجهتان الوحيدتان اللتان كان عليهما ولا يزال الإجابة عن سؤال، كيف تم التساهل مع دخول النترات، وعدم تتبع مسارها وملاحقة وجودها، والتخلي عن المسؤولية في التعامل مع هذا الملف الخطير، هما قوات اليونيفيل والجيش، والأمر في صلب صلاحيتهما ومسؤوليتهما، بينما قام جهاز أمن الدولة بمهمته ولم يتساهل أو يتلكأ، فيلاحق مدير الجهاز، ولا يسأل أحد الآخرين عن مسؤولياتهم.
التحقيق القضائي سار بعيداً من الحقيقة، وأضاء حيث يرغب الشارع الملتهب بقوة 17 تشرين لتقديم رؤوس سياسية طلباً لحماية المسؤولين الحقيقيين، وإشباعاً لعطش شعبوي لتقديم أسماء كبيرة، وإرضاء لطلب سياسي خارجي ينسجم مع الاستهداف المبرمج ضد حلفاء المقاومة، كما قالت العقوبات الأميركية وقالت الملاحقات، يا للمصادفة المذهلة، تتكرر الأسماء نفسها.
شكراً للميادين لأنها اعتمدت مهنيةعالية ولم يجذبها إغراء السياسة، فقدمت لنا مادة غير قابلة للطعن في التأسيس لسردية لا تشوبها شائبة، في قضية بهذه الأهمية وعلى هذه الدرجة من الخطورة.
No comments:
Post a Comment