skip to main |
skip to sidebar
العالم بين لاعب البوكر ولاعب الشطرنج
أبريل 4, 2018
شهر أيار/مايو المقبل سيكون نقطة تحوّل هامة على مستوى العلاقات الدولية في المنطقة وفي المشرق العربي. فشهر أيار/مايو شهر الاستحقاقات التي حدّدها الرئيس الأميركي لتثبيت نجاح ولايته على صعيد السياسة الخارجية. فما هي تلك الاستحقاقات؟
الاستحقاق الأول هو نقل السفارة الأميركية إلى القدس في يوم يحيي الكيان الصهيوني ذكرى ولادته، مع كل ما يرافقه من استفزاز للمشاعر العربية والإسلامية. أما الاستحقاق الثاني فهو اتخاذ موقف نهائي من الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث هناك مؤشرات تشير إلى خروج الولايات المتحدة من الاتفاق دون الاكتراث إلى النتائج على صعيد تحالفاتها أو حتى مصالحها في المنطقة. والاستحقاق الثالث هو حشد الدول «السنّية العربية» لاحتواء الجمهورية الاسلامية في إيران من جهة ولتمرير ما تمّت تسميته بصفقة القرن التي ستنهي الصراع العربي الصهيوني وتقفل الملف الفلسطيني وذلك على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. الاستحقاق الرابع هو تنفيذ العقوبات والتعرفات الجمركية على الصين لتصحيح ميزان التجاري بينهما لصالح الولايات المتحدة. وأخيراً هناك استحقاق القمة الثلاثية بين الكوريتين والولايات المتحدة لنزع السلاح النووي من كوريا الشمالية. هذه الاستحقاقات قد تكون غير مرتبطة بعضها ببعض، ولكن ما يحصل في أي منها سيؤثّر على باقي الاستحقاقات.
يعتقد الرئيس الأميركي أنه «سينجح» في تحقيق أهدافه. فهو يعتبر نفسه من أبرع المفاوضين وينظر إلى الأمور السياسية المعقّدة نظرة رجل الأعمال الذي يعقد صفقات بعد الانتهاء من مفاوضات «ناجحة». وشرط «نجاح» المفاوضات هو التسلّح بفائق القوّة أو الإيحاء بتملّك تلك القوّة الفائقة التي سترعب الأطراف الآخرين. كما يعتبر أن القوّة هي الرافعة التي ستمكّن من فرض الشروط التي يعتبرها محقّة ولصالحه. من هنا نفهم قراره بالتخلّص من كل من حاول معارضته داخل إدارته والمجيء برموز معروفة بتطرّفها حتى أصبح هو «العاقل» أو «المعتدل» في هذه الإدارة خاصة أنه لا يملك أي أجندة عقائدية أو سياسية تعيق «واقعيته». فشخصيات كبومبيو وبولتون في «حكومة حرب» محتملة هي شخصيات وظيفتها دبّ الرعب في قلوب الأطراف الأخرى وإجبارهم على تقديم التنازلات وإلاّ لكانت المواجهة التي لا يريدها خصوم الولايات المتحدة خوفاً من جبروتها والقوّة التدميرية لسلاحها وفقاً لتوقّعاته.
لكن هذه «الورقة» قد تكون خاسرة نتيجة الإرباك الذي سيحصل إبان التناقض بين مواقف الرئيس الأميركي وأعضاء حكومته. فالرئيس «المفاوض» قد يصطدم بالمواقف الصدامية لمستشاره للأمن القومي بولتون الذي يفضّل الحروب على التفاوض، أو بمواقف وزير خارجيته بومبيو الذي يعتبر الدبلوماسية مضيعة للوقت، حسب تعبيره. والدليل المبكر على تناقض كهذا هو ردّ وزارة الخارجية على تصريح الرئيس الأميركي الذي يعلن فيها الخروج العسكري للولايات المتحدة من سورية. فكان ردّ الخارجية مع بداية ولاية بومبيو أن «لا علم لها» بذلك. فإذا تجرّأت الوزارة الخارجية على نقض تصريح الرئيس الأميركي فكيف ستتعامل الدول الأخرى التي ستدخل «المفاوضات» مع الولايات المتحدة؟ فمن هو إذن صاحب القرار الفعلي؟
من جهة أخرى، لم يضع الرئيس الأميركي احتمال الفشل في حسابه أو إمكانية ردود خصومه على تهديداته التي هي أقرب من حالة «البلف» المعتمدة في لعبة البوكر التي يجيدها الأميركيون بينما الخصم الروسي أو الصيني أو الإيراني يجيد لعبة الشطرنج واحتساب كل خطوة بدقة، ولكل خطوة يمكن أن يقدم عليها الخصم. فمن يربح؟ لاعب الشطرنج أو لاعب البوكر؟ التقارير تفيد أن لاعب الشطرنج يستطيع التغلّب على لاعب البوكر لأنه يعرف مَن هو في مواجهته وما يملكه من قطع وحجارة، بينما لاعب البوكر لا يعتمد كلّياً على الأوراق التي يملكها كما يجهل أوراق خصمه بل على قدرته على قراءة نفسية خصمه. وهذه القراءة تفشل في مواجهة لاعب الشطرنج الذي يتمتّع ببرودة الأعصاب والصبر. فهل أصبحت السياسة الخارجية لعبة في قراءة النفس أو تقديراً لموازين القوة؟
فالروس والصينيون والإيرانيون يستطيعون مواجهة التحدّيات الأميركية وأصبحوا متفوّقين في قطاعات كانت تحتكرها الولايات المتحدة. من هنا نفهم مغزى خطاب الرئيس الروسي بوتين والذي عرض فيه القدرات العسكرية الروسية المتفوّقة على السلاح الأميركي، رغم وجود بعض حالات الإنكار. ومن مظاهر حالة الإنكار تأكيد الرئيس الأميركي لولي العهد محمد بن سلمان بأن السلاح الأميركي هو الأجدر، علماً أن منظومة صواريخ الباتريوت تأكد فشلها في كل من الجزيرة العربية وفي فلسطين المحتلة خاصة بعد إسقاط الطائرة «إف 16» الاسرائيلية الأميركية الصنع.
من جهة أخرى تشارك مكرهة الدول الغربية الولايات المتحدة في انتهاج ذهنية لاعب البوكر الذي يراهن على هروب خصمه بعد رفع قيمة المبالغ المقامرة. من هنا نفهم القرار الغربي، الأميركي والاوروبي، بطرد عدد من الدبلوماسيين الروس. فكان الرد الروسي بالمماثل، ولكن الأهم من ذلك فإن تداعيات القرارات الغربية هو المزيد من التماسك بين روسيا والصين والحزم في مواجهة التحدّيات. المشكلة في لعبة البوكر أن «البلف» قد ينقلب في كثير من الأحيان على المقدم عليه، إذا ما واجهه لاعب يعرف بدقة موازين القوّة.
بعض الأصوات المرتفعة في الدولة العميقة تراهن على تفاقم العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة وسائر دول الغرب لفرض عقوبات أكثر صرامة كإخراج روسيا من التعامل مع منظمة «سويفت» للتحويلات المصرفية والمالية، ما سيعزلها عن العالم المالي وقد يؤدّي إلى خنقها مالياً فاقتصادياً. قد تكون تلك الخطوة مزعجة لروسيا، ولكنها ستكون حافزاً إضافياً لإيجاد منظومة مالية مستقّلة عن السيطرة والهيمنة الأميركية. فروسيا والصين ومعهما عدد من الدول الآسيوية بدأت تتعامل بعملات غير الدولار، مما يفقد نسبياً أهمية الدولار وبالتالي المنظومة المالية الدولية. ومع الوقت سيوجد نظام مالي موازٍ ومستقل يعتمد إما على النفط وإما على الذهب أو أي معيار آخر ولكن لا يعتمد على الدولار. هذا سيؤدّي إلى سقوطه أو إلى تراجع مكانته في المحفظات المالية وبالتالي إلى تراجع وإن لم يكن سقوطاً للهيمنة المالية الأميركية على العالم التي كانت أساس سيطرتها السياسية العالمية.
أما على صعيد منطقة المشرق العربي فتصريح الرئيس الأميركي يوم أمس بخروج الولايات المتحدة من سورية رغم «عدم معرفة» وزارة الخارجية الأميركية بذلك ينسف مصداقية الولايات المتحدة عند حلفائها الإقليميين وخاصة عند بعض دول الخليج. فماذا سيكون مصير «الحشد السنّي العربي» بعد كلّ ذلك؟ وماذا سيكون مصير «صفقة القرن»؟ لقد برهنت الولايات المتحدة أنها تتراجع عن قرارتها إذا ما وُجهت بجدّية. هذا السفير الأميركي لدى دولة الكيان الذي لم يتوارَ عن تهديد مباشر لرئيس السلطة الفلسطينية يتراجع بعد ظهور مواقف واضحة وصريحة مندّدة بتصريحه الصلف.
شهر أيّار/مايو سيشهد فصلاً إضافياً في الملف النووي الذي يؤرق الكيان الصهيوني ومعه بعض دول الجزيرة العربية. لقد هدّد مراراً الرئيس الأميركي بالانسحاب الأحادي من ذلك الاتفاق إن لم تكن هناك إجراءات تحدّ من قدرة الجمهورية الاسلامية في إيران من إنتاج وتطوير وتجربة الصواريخ البالستية التي تهدّد الكيان الصهيوني والقواعد الأميركية في المنطقة. لن ترضخ الجمهورية الاسلامية إلى ذلك التهديد ما يجعل الانسحاب الأميركي أمراً لا مفرّ منه. وليس هناك من دليل على إمكانية التراجع لأن الضغط الأوروبي ما زال ضعيفاً. والانسحاب الأحادي الأميركي يعني عودة فرض العقوبات الدولية على إيران، إما عبر مجلس الأمن وهذا غير وارد، وإما عبر فرض العقوبات على كل الدول والشركات التي ستستمر في التعامل مع إيران. فعبر ذلك التهديد يهدّد ترامب العالم بأسره من دون الاكتراث بردود الفعل.
من الواضح أن ذلك التهديد المحتمل جدّا تنفيذه ستكون له تداعيات على العلاقات الأميركية الأوروبية، وعلى العلاقات الأميركية الروسية والصينية. فالولايات المتحدة واثقة بأن أوروبا ستطيع الولايات المتحدة وليس هناك من دلائل تنقض ذلك. فالاتحاد الاوروبي ما زال بحاجة إلى الحماية الأميركية وبالتالي واكب الحملة الهيستيرية الأميركية ضد روسيا. وليست المسرحية الهزلية لمحاولة تسميم بالغاز السام للجاسوس المزدوج الروسي البريطاني سكريبال وابنته إلاّ خير دليل على خضوع بل خنوع المملكة المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي للمشيئة الأميركية، رغم ظواهر من هنا وهناك من امتعاض اوروبي من البلطجة الأميركية. لكن في آخر المطاف، وحتى إشعار آخر، الاتحاد الآووري غير قادر أن يغرّد خارج السرب الأميركي.
لكن كيف سيتعامل الاتحاد الأوروبي مع منظومة العقوبات التي ستفرضها الولايات المتحدة على إيران؟ فهناك مصالح حيوية لكل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة تريد نسجها مع إيران. ليس هناك من إجابات واضحة حتى الآن عند القيادات الحاكمة في هذه الدول. لكن المشاكل الداخلية التي تواجهها قد تفرض عليها «التمرّد» على القرار الأميركي وتمضي بالتعامل مع إيران. على كل حال، هذه الورقة محفوفة بالأخطار من الناحية الأميركية وقد تنقلب إلى عبء لا تستطيع تحمّله إلاّ بعد خسارة فادحة في المصداقية.
هناك ايضاً ورقة الضغط على الصين من جرّاء التعرفات الجمركية التي يصل مقدارها إلى حوالي 60 مليار دولار. الصين أبلغت أنها على استعداد لمواجهة تلك التعرفات عبر فرض تعرفات مماثلة على الصادرات الأميركية للصين وخاصة من تلك الولايات التي صوّتت لترامب في الانتخابات الماضية. فكيف سيتعامل ترامب مع ذلك؟ أضف إلى كل ذلك احتمال خسارة شركة بوينغ لمصلحة شركة ايربس الأوروبية لتجديد الأسطول الجوّي الصيني. فهل يستطيع ترامب إيذاء شركة بوينغ وهي من أعمدة المجمّع العسكري الصناعي؟
من جهة أخرى أقرّ الكونغرس الأميركي موازنة وصل العجز فيها إلى 1،3 تريليون دولار. فمن سيموّل ذلك العجز الذي أوصل الدين العام الأميركي إلى أكثر من 21 تريليون دولار ما يفوق الناتج الداخلي الأميركي ويجعلها دولة مفلسة بكل معنى الكلمة؟ الصين كانت المشتري الأكبر مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية لسندات الخزينة تمويلاً للدين والعجز. والصين كانت تحمل حوالي 1،3 تريليون دولار من سندات الخزينة الأميركية، فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تفرض بشكل أحادي تعرفات جمركية أو عقوبات دون عواقب مالية مباشرة؟ فالدين الأميركي المتفاقم يجعل الولايات المتحدة تستدين من الصين لمحاربة الصين!!! فهل يمكن أن يستقيم ذلك الأمر؟
أما بالنسبة لكوريا الشمالية، فالتفاهم الروسي الصيني أفقد الولايات المتحدة ورقة التلويح بالحرب. فها هي الصين وروسيا تضمنان أمن كوريا الشمالية إذا ما نقلت ترسانتها النووية إلى روسيا التي ستخزّنها. فماذا باستطاعة الولايات المتحدة العمل إذا ما طلب المحور الكوري الشمالي الروسي الصيني نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية وإخلاء القواعد الأميركية منها؟ ماذا ستكون حجّة الولايات المتحدة لتبرير البقاء بعد أكثر من ستين سنة فيها؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة منع التقارب بين الكوريتين بغية إعادة الوحدة بينهما والتي شطرتها إلى شطرين الحرب الكورية في بداية الخمسينيات من القرن الماضي؟ قيادة كوريا الجنوبية أعربت عن انزعاجها الكبير من التهديدات الأميركية التي قد تؤدّي إلى مواجهة يتم تدمير الكوريتيين. فهل تستطيع الولايات المتحدة الضغط إلى ما لا نهاية على قيادة كوريا الجنوبية لمنع التقارب من شقيقتها الشمالية؟
فعدّة البوكر كالبلف بحمل أوراق رابحة باتت مهتزّة. فتلك الأوراق أضعف ممّا يظّن الرئيس الأميركي وقد تنقلب عليه إذا لم تستجب الدول المستهدفة لتلك الأوراق. ليس هناك من قدرة على مواجهة عسكرية وسياسية واقتصادية للولايات المتحدة مع خصوم يعون ماذا يفعلون ويحسبون بدقّة موازين القوّة. فلعبة البوكر لا تستقيم مع لعبة الشطرنج، خاصة أن التهديدات الأميركية والغربية أصبحت مجرّد ظواهر صوتية فارغة المضامين وعاجزة عن ترجمة فعلية أو ميدانية.
Related Articles
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment