لمـــــــــــاذا سوريــــــــــا
|
لكل معركة نتائجها ، وهذه النتائج لا تتوقف عند عدد القتلى والجرحى والمعاقين والفارين ، ولا عند الأليات المدمرة والمرافق التي تعطلت ، ولا عند أنماط الحياة التي تبدلت ... . لكل حرب نتائجها التي تتجاوز الإطار المكاني والزماني الذي إندلعت فيه ، فقد تمتد نتائج معركة لعقود أو لقرون ، وقد تشمل نتائج معركة وقعت في منطقة جغرافية ما ، إقليم بأكمله أو العالم بكليته . لذلك يجب تتبع تأثير خيوط الزمن التي نشأت في ميدان المعركة والتي قد تتطاول لفترة طويلة جداً من الوقت ، ويجب متابعة إرتدادات القذائف والصواريخ والغارات والدماء ... لندرك إلى أي مدى جغرافي إمتدت ، وعلى أي نحو زماني تموضعت . لا وجود لحرب عبثية ، بلا أي هدف وبدون أية نتائج . الحرب تعبير عنيف عن إرادة سياسية ، وهذه الإرادة السياسة قد تكون في وضع مريح فتكون الحرب توسّعاً ، وقد تكون مأزومة فيكون الدافع من وراء الحرب الخروج من الأزمة ، وإزالة الإنسداد من الأفق . بناءاً على ما تقدم ، أي نوع من الحروب هو الذي يشنّ على سوريا اليوم ؟ أهي حرب المرتاح أم المأزوم ؟ بعيداً عن فوضى الكلام وتطاير المفاهيم ، وبعيداً عن الحرب الدعائية والإعلاميّة ، وبعيداً عن جُبن وترف وعمالة الكثير ممن يدّعون المعارضة اليوم ... . سأحاول أن أقدم هنا رؤية إستراتيجيّة لهذه الحرب منطلقاً من فرضية مفادها " إن الولايات المتحدة الأميركية تعيش جملة من المشكلات الكبرى ، سياسيّا وإقتصاديّاً وعسكريّاً وأمنيّاً وإجتماعيّاً وبنويّاً ... وأن هذه المشكلات مجتمعة أصبحت اليوم تُشكل تهديد جدي وعميق لمصير ومستقبل هذه الدولة الإمبراطوريّة . وأن مخرجها المرحلي الوحيد من هذا المأزق التاريخي ، هو إنجاز المزيد من السيطرة على مكامن الطاقة ومراحل تصنيعها وطرق نقلها وإدارة نواتجها وفوائضها المالية ... ، والقبض بشدة على المزيد من مفاتيح الجغرافيا . حتى تتمكن من تحويل ذلك كلّه الى رصيد من السيطرة والهيمنة والتفرد من جهة ، ومعالجة جملة المشاكل التي ذكرتها سابقاً من جهة أخرى " .
لماذا سوريا ؟
إذا بحثت عن قلب العالم ستجده في المشرق العربي ، وإذا أردت وصفاً دقيقاً لعقدة المواصلات التجارية والعسكرية وأهم الممرات المائية والبريّة فأنظر الى خريطة المشرق العربي ، وإذا بحثت عن نصف طاقة العالم المؤكدة فسوف تجدها في المشرق العربي ، وإذا فتشت عن أعرق الحضارات وأكثرها تأثيراً في مسيرة الكون التاريخية لن تجدها إلا في المشرق العربي ، وإذا تتبعت مهبط الوحي وحيث يزدحم الأنبياء والرسل فسوف تصل حتماً إلى المشرق العربي ، وإذا أردت التعرف إلى أغرب كيان في تاريخ البشرية " كيان العدو الصهيوني " فلن تجده إلا في المشرق العربي ... . وأين سوريا من هذا المشرق ؟ سؤال يحمل في طياته الإجابة الكاملة على هذا السؤال ، وعلى السؤال السابق لماذا سوريا ؟ . إذا ما سأقدمه لاحقاً هو بعض الإجابة عن السؤالين السابقين .
* إختار قراء موقع الشبكة الإخبارية الأميركية " cnn " باللغة العربية السيد الرئيس بشار الأسد ليكون شخصية عام 2009 بنسبة 67 % وذلك بحصوله على 20687 صوتاً من أصل 30679 صوتاً الذين شاركوا في عملية الاستفتاء ، " بعد تنافس دراماتيكي شارك فيه أكثر من 30 ألف شخص ، وشهدت أيامه الأخيرة تقلبات محمومة في النتائج ، التي كانت تميل في البدء لصالح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان " .
* سوريا بحدّ ذاتها هدف غال لكل من يفكر " بالقبض " على المشرق العربي ، ولكل من يسعى للإمساك بقلب وعقل هذا المشرق . يوماً قال جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي في عهد الرئيس "دوايت أيزنهاور" : إنّ سوريا موقع حاكم في الشرق الأدنى . إنها أكبر حاملة طائرات ثابتة على الأرض في هذا الموقع الذي هو نقطة التوازن تماماً في الإستراتيجية العالمية ... وهذا موقع لا يجازف به أحد ... ولا يلعب فيه طرف " . من إمتلكها إمتلك مفاتيح المشرق ، وسيطر على العصب الذي يصل المشرق بإوروبا ، وكانت له الكلمة الفصل في تدفق الغاز والنفط من شرايين المشرق إلى مستهلكيه في أوروبا وأمريكا بأقرب الطرق وأيسرها ، من سواحل المتوسط إلى مستهلكية مباشرة . وزاد في أهميّة هذه الأرض الإمكانات النفطيّة والغازيّة الهائلة التي إكتشفت على سواحلها فيما بات يعرف بـإسم " الجرف الشامي " .
* الجمهورية العربيّة السورية خاضت في العام 1973 الحرب الأهم في تاريخ الصراع العربي الصهيوني بشراكة كاملة مع الجيش العربي المصري ، وعدد من الوحدات العربية المقاتلة الأخرى . ولكنه بقي وحيداً في ساحة المعركة لشهرين تقريباً بعد أن " باع " انور السادات هذه الحرب لهنري كيسنجر ، مقابل إتفاقيّة سلام مهينة ما زالت تتكشف فصولها السريّة التي قيّدت مصر وأسلمتها كاملة لأمريكا وكيان العدو . حتى وصل الأمر بأحد المسؤلين المصريين أن يقول حرفيّاً قبل ثلاثة أعوام تقريبا " إن رئيس مصر يجب أن ترضى عنه أمريكا ولا تعارضه " إسرائيل " . وبعد أربعين عاماً " 1973 - 2013 " ، ها هو الجيش العربي السوري يخوض الحرب وحيداً منذ ثلاثة أعوام ، ضد هذا الغزو الجديد المسمى " ربيعاً عربيّاً " . وهو مصمم على النصر ، وسيكون لصموده وإنتصاره آثاراً تفوق بأضعاف نصر تشرين . لم ينسى أعداء هذا الجيش تشرين ، وبكل تأكيد سيكون لنصره 2013 تداعيات ستعلق بذاكرتهم ووجدانهم وتفاصيل حياتهم طويلاً جداً جداً .
* إن أهم عقبة أمام تصفية القضية الفلسطينية نهائياً ، والدخول إلى مرحلة التطبيع الشامل بين الكيان الصهيوني وعرب الإعتلال هي سوريا . لا يحتاج الأمر أكثر من نظرة سريعة لقادة هذه الأمة ، وإسترجاع بسيط لعدد بسيط جداً من التصريحات والمواقف العلنية التي تدعو إلى هذه " الصفقة " . وما حدث في قمّة الدوحة - مؤخراً - مشهد مكثف بصورة مذهلة لهذه الثنائية ، هجوم على سوريا ورغبة دفينة لمحوها عن الوجود بصورتها الحاليّة ، والدعوة لإرساء السلام مع كيان العدو الصهيوني .
* إن الدولة العربيّة التي تمنع بقية الدول العربيّة من الدوران بشكل مطلق في الفلك الأميركي هي سوريا . ولولا سوريا لعدنا إلى مرحلة المندوب السامي البريطاني ، الذي كان يُدير من القاهرة ثلثي الوطن العربي . فيخلق دولاً وينهي وجود أخرى ، ويبدع أنظمة ويسقط أخرى ... . قد يقول قائل ، إن ما نراه في هذه الدول اليوم هو شبيه جداً بما كانت عليه بالأمس ، أقول ما كان بالأمس هو إستعمار المرتاح وأمّا ما كنّا سنراه مع الأمريكي - بدون صمود سوريا ومقومتها - هو إستعمار المضطر والمأزوم ، والفرق بينهما كبر جداً جداً . بشكل مبسط ، إنه الفرق بين من يسرق على مهل ، وبين من يسرق بنَهَم وتوتر ، سيقوم هذا الأخير بكل ما هو معقول وما هو غير معقول ليعالج نهمه وينهي توتره ، ولنا في أمّة الهنود الحمر خير مثال لتوضيح المعنى . ستكون سوريا هذه بصبرها وصمودها وإنتصارها ، هي الرافعة الحقيقيّة لخلق واقع عربي جديد مختلف بكل تأكيد عمّا نراه اليوم في وطننا العربي .
* في النسخة المحدثة للشرق الأوسط الجديد - الربيع العربي - كان من المفروض أن يقفز عدد الأقطار العربيّة إلى الضعف ، ويتكاثر عدد الملوك والرؤساء والشيوخ بعدد الطوائف والمذاهب والأديان والقوميات ... . مع الحفاظ على ثابتين أساسيين : تدفق دائم وسلس للنفط والغاز . وليبيا التي يقاتل الكل فيها الكل مع إنتظام دقيق لتدفق الغاز والنفط إلى مستهلكيه الغربيين مثال صارخ على هذا الثابت . والثابت الآخر هو سلامة كيان العدو الصهيوني . هل عاد هناك من يتحدث عن جرائمه اليوميّة ؟ من نهب للأرض ، وتهجير للناس ، وحرق المحاصيل والمزروعات ، ومصادرة الأراضي ، وبناء المستوطنات ، وحرمان ألآف البشر من حريتهم خلف القضبان وكثير منهم محبوس بلا تهمة أو تحقيق ، وحصار مستمر لمليون ونصف المليون مواطن في قطاع غزة منذ سنوات ... . سقوط سوريا كان يعني سقوط الحاجز الأهم والأخير لإنطلاق هذا المشروع المجنون . ولكن سوريا وحدها وقفت في وجه هذا المشروع الأخبث والأخطر ، ومرة أخرى تكون سوريا سبباً في تعميق جراح أمريكا ، وزيادة نزفها ، وسقوط مشاريعها .
تلك رؤية لا تغيب عن عقلي ووجداني ، وتفسر لي الكثير الكثير من الأسباب التي تجعل من الحرب على سوريا أمراً حتميّاً ودائماً بأشكالها المتعددة ، فقد تأخذ شكلاً عسكريّاً أو أمنيّاً أو إقتصاديّاً أو سياسيّاً أو دبلوماسيّاً أو إعلاميّاً ... وقد تكون خليطاً من ذلك كلّه كما يجري اليوم . وتلك الأسباب عينها التي تجعلني على يقين بأن نصر سوريا محتم . ربما هي طبيعتي الحالمة ، ولكن من يقول إن الواقع قد يحيى ويتطور بلا حلم ؟!
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of this Blog!
No comments:
Post a Comment