ما يشهده لبنان لا مثيل له من ناحية عمق انهياره السياسي والاقتصادي.. ولا نظير له منذ تأسيس «لبنان الكبير» قبل قرن تقريباً.
هنا يجب الإقرار أن انهيارات اقتصادية وسياسية عديدة ضربت بلاد الأرز مرات عدة، وكان ينجو منها بحرص خارجي عليه، مع كمية قليلة من التمكن الداخلي.
إلا أن عيارات انهياره الحالي عميقة وبنيوية، وتتواكب مع تأزم العلاقات الدولية والعسكرية، وانتشار جائحة الكورونا على مستوى البشرية جمعاء، وما أدت إليه من شكل كبير وعميق في الاقتصادات العالمية.
فهل ينجح لبنان في اختراع هدنة سياسية تبتكر معادلة حكم داخلية، تحظى بتأييد الطوائف وموافقة الأطراف الإقليمية والدولية الراعية؟
هناك مفاصل لبنانية لا يُمكن تجاوزها وتشبه لعبة أحجية تحتاج إلى كثير من الدهاء لفك ألغازها.
الاولى ان لبنان بلد طوائفي، اقتنعت مكوناته بعد مئتي عام تقريباً من صراعاتها ان الحلول السياسية الراسخة لا يجب أن تستبعد أي مكوّن طائفي من معادلة الحكم.
فيما تذهب الثانية الى اختراع لبناني فريد من نوعه في العالم ويتعلق بضرورة تمثيل القوى الأكبر في طوائفها، في معادلة الحكم أي الحكومة ورئاستي الجمهورية ومجلس النواب.
ضمن هذين الشرطين تسرح ثماني عشرة طائفة لبنانية في دول الإقليم والخارج لتأمين حماياتها بين دول لها مصالح في الشرق الأوسط… وسرعان ما نجد الأميركي والفرنسي والروسي والسعودي والإيراني والتركي في أحياء بيروت ومناطقها وبيوتاتها السياسية، فيما تجوب بوارجهم مياه المتوسط اللبناني وتخترق طائرات العدو الاسرائيلي أجواء بلاد الأرز يومياً.
فكيف يمكن إنتاج معادلة حكم لبنانية إذا كانت العلاقات الاقليمية والدولية متفجرة الى درجة الاحتراب الفعلي، وتحاول قوى الطوائف مضاعفة حصصها في الحكومة الجديدة عبر استثمار علاقاتها بالخارج.
وكيف يتنازل مَن يمتلك أكثرية نيابية عن رجحان كفته في التحاصص الحكومي قانعاً بالمساواة الوزارية مع الخاسرين.
وهل يصدق أحد أن الخاسرين يطبقون خططاً خارجية لمحاصرة حزب الله وتجريده من سلاحه، مقابل أن يشكلوا أكثرية مزيفة في حكومات مقابلة؟
لذلك فإن ابتكار معادلة حكم لمجلس وزراء لبناني جديد، تبدو مستحيلة وقابلة للإرجاء حتى موعد بعيد.
فكيف يمكن ان نجمع بين الممثلين الأقوى لثماني عشرة طائفة وتأييد قوى الخارج والاقليم في هدنة تضم الاميركيين ومعهم بالطبع السعوديين والفرنسيين من جهة الى جانب الإيرانيين والسوريين من جهة أخرى.
فوضعية كهذه تحتاج الى مساحات هدنة أكبر من لبنان، وهذه ليست موجودة حالياً لأن التراجع الاميركي في الإقليم انقلب مشروعاً اميركياً بالهجوم على حزب الله في لبنان وتشديد الحصار على إيران وسورية واليمن..
نحن إذاً وسط هجوم اميركي مضاد، يريد اعادة تأسيس موازنات قوى إقليمية لمصلحته. ولن يوقفه إلا بعد يأسه من إمكانية تحقيق اهدافه، او انجازه لأي نصر مهما كان باهتاً.
انما ما هي المعادلات الاربع التي اجتازها لبنان في المراحل الماضية وعكست مهادنات بين قواه الطائفية.
هناك أربع معادلات ابتدأت مع تأسيس الدولة اللبنانية في 1948 على اساس هيمنة مارونية كاملة مع وجود سطحي للطوائف الأخرى.. وتلتها معادلة 1958 التي عكست تسوية اميركية مصرية جاءت بفؤاد شهاب الماروني رئيساً للبنان على اساس تحسن طفيف في وضعية رئيس الحكومة السني.
اما التسوية الثالثة فهي الطائف في 1989 التي غطتها السعودية بالاتفاق مع الاميركيين والسوريين، واصبح فيها النفوذ السني أساسياً بمشاركة مارونية.
إلا أن معادلة 2006 في اتفاق الدوحة في قطر قضت على المعادلات السابقة، وشكلت حكماً بثلاث إدارات شيعية ومارونية وسنية، أوصلت لبنان الى بلد مفلس يتعرض لأعنف انهيار اقتصادي وسياسي يمكن لبلد بحجم لبنان أن يتحمله.
لذلك فإن تدخلاً اقليمياً دولياً يحاول بالاشتراك مع الطوائف الثلاث الاساسية أي الشيعة والسنة والموارنة تشكيل حكومة جديدة.
من جهة الفرنسيين فانهم يبذلون جهوداً خارجية وداخلية، لإنتاج حكومة لبنانية جديدة، لكن هذه الجهود تحتاج الى معادلة تحتوي على موافقة ست دول إقليمية ودولية متناقضة على كل شيء تقريباً.
والاحزاب الأقوى عند السنة والموارنة والشيعة والارثوذوكس والكاثوليك والدروز والأرمن. هناك أيضاً قطبة مخفية وتتجسد في الحلف الاميركي ـ السعودي الذي أصدر كما يبدو فرماناً بمنع تشكيل حكومة في الوقت الحاضر.
ويراهن على تقليص التأييد الشعبي لحزب الله من خلال اشتداد حمى الأزمة الاقتصادية، ما يجعل الدولة ترضخ للشروط الاميركية في اقتسام آبار النفط اللبنانية مع الكيان الإسرائيلي المحتل، واقفال حدود لبنان مع سورية خصوصاً لجهة المعابر التي يستخدمها حزب الله في حركته الإقليمية.
فهل بالإمكان إنتاج معادلة حكم لبنان في ظل هذا الارهاب الاميركي المتصاعد؟ وكيف يمكن للمطالبين بحياد لبنان من القوى الداخلية والاقليمية والدولية أن يواصلوا رفع شعار الحياد وهم يرون الاعتداءات الاسرائيلية على جنوب لبنان والاختراق الجوي الاسرائيلي اليومي لاجواء لبنان؟
هناك طريقة واحدة لبناء معادلة حكم جديدة، وهي ذات بعدين: إما ان يرضخ لبنان سياسياً للضغط الاميركي وينتظر انفجاره تماماً، او تذهب الأكثرية النيابية فيه الى استشارات ملزمة، تؤدي الى تشكيل حكومة اكثرية، يكون الانفتاح على الصين وروسيا والعراق وإيران من اولوياتها وبهدف وحيد، وهو الحيلولة دون انفجار الدولة الذي يؤدي تلقائياً الى تصديع الكيان السياسي اللبناني على الطريقة التي قال فيها وزير الخارجية الأميركي السابق ان لبنان خطأ تاريخي بوسعه إيجاد حلول لتوطين الفلسطينيين وبعض السوريين مع تهجير المسيحيين الى الغرب، وهذا ما يريده اللبنانيون جميعاً.
No comments:
Post a Comment