«ليس غريبا أن يبيعنا الأميركيون، فهم دأبوا على ذلك»، هكذا يختصر ديبلوماسي فرنسي سابق له علاقة مباشرة بملفات المنطقة، واقع السياسة الأميركية في الأزمة السورية. ويضيف، بشيء من الخبث المتعمد، «لو أن بشار الأسد أراد اختراع معارضة تناسبه لما أوجد أفضل من هذه التي تحاربه الآن. لقد خيبت بتفككها وتسليمها مفاتيح الصراع إلى جهاديي القاعدة وجبهة النصرة، كل الآمال التي كانت معقودة عليها، ولو أن إسرائيل صلت على حائط المبكى 20 قرناً لما حصلت على نتيجة أفضل مما تراه الآن في سوريا حيث الاقتتال دمر بنى الدولة وأنهك الجيش وعزز الفتنة ..».
فماذا في المعلومات؟
ثلاث دول أوروبية، على الأقل، هي ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا، بدأت اتصالات تحت الطاولة مع دمشق. ترفض هذه الدول بقوة منطق تسليح المعارضة. تخشى من ارتداد موجات الإرهاب إليها. تعتقد أن على الرئيس الفرنسي الاشتراكي الحالي فرنسوا هولاند أن يضع حداً سريعاً للمغامرة التي كان بدأها سلفه اليميني نيكولا ساركوزي. ترتفع في فرنسا نفسها، وعلى نحو لافت، المعارضة الداخلية للتحالف الفرنسي – القطري. تزداد الشبهات حول دور الدوحة في تمويل متطرفين في أفريقيا وليبيا وسوريا. رفوف المكتبات الفرنسية زاخرة بالكتب ضد قطر. تنتشر المقالات المناهضة في صحف اليمين واليسار، وزاد في الطين بلة المشكلة الرياضية الكبيرة التي حصلت مع مشجعي فريق «باريس سان جيرمان»، الذي اشترته قطر. اجتاحت أعمال الشغب ساحة «التروكاديرو» الشهيرة المشرفة على برج «ايفل». قام بها مشجعو الفريق، فاجتاحت الأسئلة شاشات التلفزة. هل هذا بسبب قطر وأموالها؟
في المعلومات أيضاً، أن اللوائح التي سلمتها دمشق إلى الأمم المتحدة حول «إرهابيين» و«متطرفين خطرين» ينتمون إلى 28 دولة عربية وأجنبية، بدأت تثير قلقاً فعلياً لدى العواصم الأوروبية. كثير من هذه الأسماء مطلوب أصلاً على لوائح الإرهاب الأوروبية والأميركية. يجري حالياً تدقيق أمني بكل هذه اللوائح. يفترض ذلك تنسيقاً أمنياً تحت الطاولة مع الأجهزة السورية واللبنانية والإيرانية والروسية. يجري تبادل الزيارات تحت جنح الظلام وبعيداً عن عيون الإعلام. جاءت التفجيرات في تركيا تطرح أسئلة حول انتقال الحريق إلى دول الجوار. بدت قيادة رجب طيب أردوغان أعجز من أن تستمر في التزامها بإسقاط النظام بالقوة. صار نظامها محور الأسئلة والشجب بسبب المغامرة في سوريا.
في المعلومات كذلك، أن واشنطن التي قبلت ببقاء الأسد حتى انتهاء ولايته الحالية، تجد نفسها الآن في وضع محرج تماماً. شرح المسؤولون الأميركيون صراحة لنظرائهم الروس أنهم غير قادرين على القيام بتحول مفاجئ. طلبوا منهم بعض الوقت. أوباما، الذي يتعرض حالياً لهجوم خطير من الجمهوريين والمحافظين الجدد بسبب مقتل سفيره في بنغازي، لا يستطيع إفهام الرأي العام الداخلي عنده ما الذي حصل كي يحدث التغيير. قال مبعوثوه إن اوباما قد يجد نفسه أمام مشكلة كبيرة مع المعارضة السورية التي بدأت تشعر بأن ثمة «صفقة» تجري تحت الطاولة بين موسكو وواشنطن. لا بد إذاً من إبقاء الخطاب العلني ضد الرئيس السوري حاضراً حتى ولو أن كلام الغرف المغلقة مغاير تماماً. لا بأس أن يقول مع رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون إن الضغط سيستمر. لم يخجل كاميرون حين قال إنه سيزود المعارضة بمولدات كهرباء. كانت روسيا في تلك اللحظة بالضبط تؤكد على صفقات الصواريخ لسوريا. وتحت الطاولات تنبعث رائحة فضائح تصيب بعض الديبلوماسيين الأميركيين من أنهم ربما قبضوا مبالغ خليجية كبــــيرة للاستمرار في المعركة.
وفي المعلومات أيضا، أن إرجاء مؤتمر «جنيف 2» ليس وليد الصدفة. حصل الأمر باتفاق روسي – أميركي. لا بد من التمهيد للرأي العام الأميركي الداخلي لهضم التحول الأميركي حيال التسوية. أيقنت أميركا ومعها الأوروبيون أن فلاديمير بوتين أكثر صلابة بتحالفه مع سوريا مما اعتقدوا. قالت موسكو، لمن يهمه الأمر إن طائرات «الأطلسي» ستسقط فوق سوريا لو تقدمت. سارعت إلى شجب العدوان الإسرائيلي، حتى قبل شجب «حزب الله». أكدت أن سلاحها إلى سوريا مستمر وأن لا داعي لقلق إسرائيل، ولن تغير موقفها إن قلقت إسرائيل.
وفي المعلومات أخيراً، أن نصف دول الخليج على الأقل باتت على اتصال مباشر مع القيادة السورية. وحدهما قطر والسعودية حائرتان. يدرك أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أنه لا يستطيع خسارة المعركة مهما كلفه الأمر. لكنه أدرك مؤخراَ أن إيران بدأت تظهر مخالبها، وأن الغرب قلق من المسلحين الجهاديين أكثر من قلقه من النظام. لا بد من طرق أبواب طهران.
مصر سمعت كلاماً من عدد من دول «البريكس»، بعد زيارات الرئيس المصري محمد مرسي، أن الحل السياسي هو المقبول وأنه لا بد من وقف تسليح المعارضة. هذا رأي الجيش والاستخبارات في مصر أيضاً وفق آخر المعلومات الواصلة إلى دمشق.
لا بد هنا أيضاً من التفاهم مع طهران. لا بأس إن غضبت بعض دول الخليج، ألم يشن الإعلام السعودي أعنف حملة ضد مرسي و«الإخوان المسلمين»؟ حاولت قطر ضخ مليارات الدولارت، وآخرها ثلاثة مليارات لشراء سندات خزينة. ما عاد الأمر ينفع. قالت القاهرة صراحة إن إيران جزء من الحل في سوريا لا من المشكلة. الخطوط المصرية – الإيرانية أوسع مما يعتقد كثيرون.
يستفيد الجيش السوري من هذا المناخ. يحكم الطوق على القصير، وبعدها سينتقل إلى أماكن أخرى. يقول مسؤول سوري معارض كانت له علاقة قوية بالمسلحين إن «الجميع يتخلى عنا، والجميع يكذب علينا، لا نسمع سوى الوعود بينما الصواريخ تتساقط على رؤوسنا، نشعر بأن ثمة صفقة كبيرة تطبخ. لم يعد أمامنا سوى الاستشهاد أو التسليم، وبعض القادة بدأوا اتصالات مع السلطة للتفاهم على التسليم، لقد خدعنا الجميع وما عدنا نصدق أحداً». ويعد المسؤول بأنه سيخرج إلى الإعلام قريباً ليقول ما عنده، مؤكداً أن مسؤولين عسكريين كبارا يشاركونه الرأي.
انسحب هذا الشعور إلى داخل «الائتلاف المعارض». يبرز جناح يقول إن أميركا تخدعنا ولا حاجة لنا للذهاب إلى «مؤتمر جنيف» لأنهم يريدون تمرير الصفقة على حسابنا. يعزز الأمر بعض الأطراف الإقليمية والدولية، يقول هؤلاء إنه لا بد من اختراق أمني كبير للمعارضة المسلحة، لا بد من عملية نوعية ضد أشخاص أو مقار عسكرية. قيل إن ضغوطاً مورست على حركة حماس لرفع الصوت ضد النظام السوري. ارتبط بعض هذه الضغوط بمحاولة طرف من حماس العودة إلى التفاهم بقوة مع «حزب الله» وإيران وتقديم قراءة مغايرة لما يجري. حماس ليست بنظر الغرب كـ«الاخوان المسلمين» برغم أنها جزء منهم. إسرائيل لها رأي في الأمر فيضيق الأفق أمام «الحركة الإسلامية المقاومة» بالرغم من كل الوعود من قبل حلفائها الجدد.
الصورة صارت واضحة إذاً. الجيش السوري قرر الاستمرار في الحسم، ولا تفاوض جديا قبل حسم عدد من الجبهات. ربما اوباما نفسه بات قابلا بتغيير الواقع على الأرض لإقناع الناس عنده بتغيير محتمل ولتخفيف الإحراج أمام المعارضة. لكن في المقابل، ثمة أطراف تعرف أنها لا تستطيع خسارة المعركة وقد تستشرس في المرحلة المقبلة. فالقطار الروسي – الأميركي صار على السكة، لكن في الطرقات غالبا ما تكمن المطبات. وحتى الساعة لا النظام السوري ولا بوتين مقتنعان بحسن النيات الأميركية.
ماذا عن لبنان في هذه المعمعة؟
يختصر المسؤولون السوريون موقفهم بثلاث جمل مفيدة جداً في هذا الوقت من الفراغ الحكومي، «دمشق إلى جانب لبنان بكل طوائفه ومكوناته، لكنها لن تقبل مطلقا بمؤامرات يحوكها بعض اللبنانيين مع دول إقليمية عربية وتركيا لضرب المقاومة. إن التحالف الاستراتيجي الذي تعمد بالدم بين المقاومة وسوريا ما عاد يقبل مراهنات ومغامرات. وإن ما كان مقبولا في السابق ما عاد واردا الآن».
ربما تعني دمشق في هذا الكلام اتصالات بعض اللبنانيين بالسعودية وقطر وتركيا. فالنظرة السورية الى الامير بندر بن سلطان معروفة. لكنها في الوقت نفسه تبقى أكثر مرونة بالنسبة للسعودية، خصوصاً أن الاتصالات الإيرانية مع الرياض تسير في اتجاه جيد هذه الفترة.
وحين يطرح السؤال عما اذا كان المعنيون بهذا الكلام هم وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع، يأتي الجواب عبر التذكير بقصة لا يعرفها ربما سوى السوريين والسعوديين والقطريين والأتراك، ومفادها أن اقتراح الإبقاء على سعد الحريري رئيساً للحكومة قبل عامين كان من قطر وتركيا، بينما السعودية كانت أفهمت السوريين آنذاك بعدم حماستها الكبيرة لهذا الخيار، وهو الموقف نفسه الذي كان لدمشق.
لدى بعض المسؤولين السوريين شعور جدي بان أطرافا في السعودية وقطر تحاول دفع أطراف لبنانية للتصعيد، وينتظرون أن يتجلى ذلك في خلال مرحلة التشكيلة الحكومية والانتخابات، ويقولون إن ذلك لن يستمر طويلا، فمن يعطي الأمر بالتصعيد هو نفسه من سيعطي الأمر بالتهدئة حين تسنح الظروف.
هل لا يزال لدى دمشق امكان التأثير في الوضع اللبناني والحكومة والانتخابات؟ لا جواب مباشرا وإنما ابتسامة، ثم القول «لم يكن تحالفنا في أي يوم مضى قويا مع المقاومة وحزب الله وبعض القيادات اللبنانية التي وقفت إلى جانبنا في هذه المحنة أقوى مما هو عليه اليوم، وعلى من يفكر بغير ذلك أن يعيد حساباته».
قد يضاف إلى ذلك أن أي تفاهمات كبيرة في المنطقة لن تجري بدون أميركا وروسيا والسعودية ومصر وايران. فهل بالصدفة دخول الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني على خط الترشيحات للرئاسة المقبلة في إيران؟ هل ما يجري تحت الطاولات حتى على خط واشنطن – طهران هو فعلاً ما يقال فوقها؟
السفير
No comments:
Post a Comment