د. إبراهيم علوش
11/5/2013
ثار كثيرٌ من اللغط واللغو، منذ وُقعت المعاهدات وفُتحت أبواب التطبيع على مصراعيها مع العدو الصهيوني، حول ما يمثل وما لا يمثل تطبيعاً. وقد حاول البعض أن يغطي التطبيع بذرائع دعم أهلنا العرب الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال في فلسطين المحتلة عام 48 أو 67 أو بصعوبة ظروفهم، كما حاول البعض الآخر أن يغطيه بقناع معرفة العدو ودراسته.
من جهة أخرى، شطح البعض إلى حد اعتبار أي تعامل مع أهلنا تحت الاحتلال، وتقديم أي دعم لهم، تطبيعاً، وهو ما يقدم الذريعة لممارسة التطبيع، في الواقع، بذريعة أن مقاومي التطبيع ضيقو الأفق لا يدركون تعقيدات الحياة اليومية لأهلنا في ظل الاحتلال والضرورات العملية التي تحكم وجودهم إذا ما أرادوا الاستمرار بالصمود على أرض فلسطين في وجه محاولات تهويدها.
وفي ضوء تزايد دعوات السلطة الفلسطينية للمثقفين والفنانين العرب لزيارة رام الله للمشاركة في نشاطات ثقافية فيها، وفي ضوء تزايد الترويج “السياحي” بين المسلمين والمسيحيين العرب لزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين المحتلة عامةً والقدس خاصة، وكذلك السياحة العادية بفيزا “إسرائيلية”، ودخول الشخصيات الدينية والسياسية العربية إلى رام الله بموافقة “إسرائيلية”، فإن السؤال الذي يظل يطرح نفسه بإلحاح يبقى: متى تكون زيارة فلسطين تطبيعاً؟
لا بد في البداية أن نعرف ماهية التطبيع لكي نقترب من طرح إجابة منهجية على مثل هذا السؤال. وقد سبق أن عرفت التطبيع في مادة سابقة بأنه ببساطة جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً. وفي سياق العلاقة مع العدو الصهيوني فإن التطبيع يعني كل قول أو فعل أو تقاعس أو صمت يقوم على التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كوجود طبيعي. مثلاً، وجود سفارة أو علاقات دبلوماسية أو تجارية أو أمنية مع العدو الصهيوني يمثل تطبيعاً بالضرورة.
وبالنسبة لهذا التعريف لا بد من الإشارة لأمرين: أولاً، أن التطبيع لا يعني إعادة ما هو غير طبيعي إلى طبيعته كما ذهب البعض، بل يعني جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً، سواء كان طبيعياً في الماضي أم لا، وبالتالي فإن مصطلح التطبيع لا يعني إعادة العلاقات مع العدو الصهيوني إلى سابق عهدها كما يظن البعض، بل يمثل ذلك شططاً في التأويل وإسقاطاً في غير محله. ثانياً، أن المشروع الصهيوني كان منذ البداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتهويدها، أي أنه مشروع استعماري إحلالي، لا مشروع احتلال عسكري فحسب.. ومن هنا فإن المشروع الصهيوني يساوي بالضبط ملايين اليهود الموجودين حالياً في فلسطين الذين أتوا على خلفية المشروع الصهيوني منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولذلك فلا معنى جدي للتفريق بين اليهودي والصهيوني على أرض فلسطين (سواء كان شرقياً أم غربياً) إلا إيجاد نوافذ “وطنية” أو “تقدمية” للتطبيع مع الصهيونية. فكل يهودي على أرض فلسطين هو اليوم جزء من المشروع الصهيوني بغض النظر عن خطابه.
ويتخذ التطبيع مع العدو الصهيوني أشكالاً شتى سياسية واقتصادية وثقافية وفنية ورياضية وأكاديمية وإعلامية وسياحية ودينية الخ… فالاعتراف بدولة “إسرائيل” تطبيع، وكل ما ينم عن اعتراف بدولة “إسرائيل” تطبيع. وبما أن المعاهدات مع العدو الصهيوني تطبيعٌ، فإن كل ما يتمخض عنها تطبيعٌ أيضاً. مثلاً، دخول المنتجات الزراعية الصهيونية للأسواق العربية وغير العربية تطبيع، وكذلك السياحة بالاتجاهين. أما سياسياً، فإن المطالبة بتطبيق “قرارات الشرعية الدولية”… “ذات الصلة”… مطالبة تطبيعية بالضرورة لأنها تكرس حق الكيان الصهيوني بالوجود المعترف به، والآمن، على الأرض العربية المحتلة، وينتج عن ذلك أيضاً أن “مبادرة السلام العربية” هي مبادرة تطبيعية، كمما تقول بنفسها، وكذلك ما يسمى “عملية السلام” برمتها. وينتج عن ذلك أيضاً أن “السلطة الفلسطينية”، كونها نشأت عن اتفاقية أوسلو التطبيعية، هي بالتعريف مؤسسة تطبيعية، وكذلك أدوارها الأمنية والسياسية والتفاوضية، دون أن ننجرف لاتهام كل موظف صغير يعمل فيها بالتطبيع.
وتتلخص وظيفة التطبيع بكسر حاجز العداء مع الصهيونية ومؤسساتها وخطابها وممثليها، وهو حاجز متعدد الأشكال، في الواقع، يتم السعي لتجاوزه بصور متعددة. مثلاً، الحاجز القانوني يتم السعي لتجاوزه بالمعاهدات والقوانين التي تكرس التطبيع. مثلاً، “القانون الموحد لمقاطعة إسرائيل” في الأردن لعام 1958 نص على معاقبة أي أردني يتداول المنتجات “الإسرائيلية” بالأشغال الشاقة المؤقتة ما بين ثلاث وعشر سنوات، وغرامة قد تصل لخمسة آلاف دينار أردني (وقتها!). فأتت معاهدة وادي عربة لتقونن وتشرعن التطبيع بأشكاله المختلفة، لا التجاري فحسب.
…ومن هنا مشروعية مطلب تجريم التطبيع في الدستور التونسي الذي تقف حركة النهضة عائقاً في وجه تبنيه.
وكذلك حاجز العداء النفسي يتم السعي لتجاوزه بالتطبيع الثقافي والإعلامي والتعليمي. مثلاً، ما قامت به قناة الجزيرة من اختراق أدخل الناطقين بلسان الصهاينة إلى كل منزل عربي مثل اختراقاً تطبيعاً إعلامياً فتح الباب أمام معظم الوسائل الإعلامية الناطقة بالعربية للتعامل مع الرواية الصهيونية والمعبرين عنها كأمر “طبيعي”. وعلى الصعيد الإعلامي والثقافي أيضاً يشكل المصطلح التطبيعي أحد أخطر ادوات اختراق الوعي العربي. مثلاً، لا بد من محاصرة كلمة “إسرائيل” بين مزدوجين دوماً لأن استخدامها بدون مزدوجين يعني التعامل مع ما تمثله كأمر طبيعي، وللمزيد حول هذا الموضوع، الرجاء مراجعة كراس “المعركة على جبهة المصطلحات في الصراع العربي-الصهيوني”.
ونظهِر في معالجة أخرى أن ترجمة الأدب العبري إلى العربية، والعربي إلى العبرية، خارج سياق سعي حركات المقاومة ودول الممانعة دراسة العدو ومعرفته بغرض القضاء عليه، هو تطبيع ثقافي بمضمون سياسي. وشتان ما بين دراسة العدو، وما بين تسويق التعاطي الثقافي معه للقارئ العربي كأمر طبيعي!
ولكن التطبيع الثقافي لا يعني السعي لإقامة علاقات طبيعية بالمناسبة، كما هي الحال بين أي دولتين، بل أنه يمثل مقدمة فرض الهيمنة الثقافية الصهيونية على الوطن العربي، أي مقدمة شطب الهوية العربية ثقافياً. فالتطبيع هو مقدمة الهيمنة، لأن المشروع الثقافي الصهيوني هو مشروع هيمنة وتفكيك لا مشروع تعايش سلمي مثلاً كما نظهر في معالجة أخرى.
بيد أن التطبيع كمقدمة للهيمنة لا يقتصر على البعد الثقافي فحسب، بل يمثل جوهر التطبيع السياسي والاقتصادي أيضاً. فالتطبيع الاقتصادي إستراتيجياً هو مشروع قطف ثمار الوحدة العربية في محيط مجزأ ومفكك وتابع كما نظهر في معالجة أخرى.
والتطبيع السياسي والاقتصادي كمقدمة للهيمنة هو جوهر مشروع “الشرق أوسطية” القائم على: 1) شطب هوية المنطقة العربية المشتركة، و2) تفكيك دولها العربية المركزية، كما نظهر في ورقة عن منتدى دافوس في الأردن منذ العام 2004.
أما بعد، فإن كل ما سبق من أحكام مبدئية يتركنا مع أسئلة صعبة تتعلق: 1) بوضع أهلنا في فلسطين والجولان في ظل الاحتلال، و2) بكيفية تقديم الدعم لهم ولصمودهم في الأرض، خاصة في ظل الانبطاح الرسمي العربي أمام الطرف الأمريكي-الصهيوني. وفيما يلي محاولة أو اجتهاد للإجابة على بعض تلك الأسئلة من منظور قومي عربي متمسك بالميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل يستند للثوابت الفلسطينية التي تتخلص بعروبة فلسطين من النهر إلى البحر، وبالكفاح المسلح طريقاً لتحريرها، وبرفض الاعتراف بمشروعية الوجود اليهودي في فلسطين الذي أتى على خلفية المشروع الصهيوني، ويتبع ذلك طبعاً رفض التطبيع مع العدو الصهيوني مع الإصرار على التمسك بالصمود في الأرض من أجل مقاومة عملية تهويدها.
هنا لا بد من التذكير دوماً أن معاناة الفلسطينيين والجولانيين سببها الاحتلال، وأن ذلك الاحتلال يتبنى مشروعاً لتهويد الدولة وللتخلص منهم، فدعم الفلسطينيين والجولانيين لا يكون بمد الاحتلال بالمشروعية السياسية، من خلال الاعتراف به والتعامل الطبيعي معه، ولا يكون بمده بأسباب القوة، من خلال شراء منتجاته وفتح المنافذ لصناعاته واستثماراته في الأسواق العربية.
كما لا بد من التذكير بأن ما يمكن التسامح معه مؤقتاً في حالات غياب مشروع وطني مقاوم متصاعد، ومشروع قومي عربي، لا يمكن التسامح معه عندما تنضج الظروف للانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم. أما الهدف الحالي في مواجهة الاختراق الصهيوني فهو خلق حالة من التماسك وتعزيز ثقافة المقاطعة ومناهضة التطبيع يمكن البناء عليها للانطلاق من حالة مناهضة التطبيع إلى حالة دحر المشروع الصهيوني وتحرير الأرض. فلا يجوز بأية حال أن نركن إلى حالة استقرار مع المشروع الصهيوني ولو من منطلق مناهضة التطبيع، وعليه لا يمكن فهم مقاومة التطبيع إلا كتتمة لدعمنا للمقاومة المسلحة في مواجهة العدو الصهيوني.
مثلاً، من الصيغ الممكنة لدعم أهلنا تحت الاحتلال وتعزيز صمودهم صيغة استيراد التفاح الجولاني لسورية منذ عام 2004، عبر الصليب الأحمر الدولي، لدعم المزارع الجولاني الذي يسرق العدو الصهيوني مياهه ويحاربه اقتصادياً، بدون التعاطي المباشر بين العدو الصهيوني والدولة السورية، ولا توقيع معاهدة “سلام”، ولا القبول بالتطبيع السياسي أو الاقتصادي كشرط. وعلينا أن نفكر بإيجاد صيغ مماثلة لاستيراد الحجر الفلسطيني، أو منتجات بعض الصناعات المعدنية الفلسطينية، بدون إقامة علاقات تطبيعية مع العدو الصهيوني. أما إقامة علاقات تجارية أو استثمارية مباشرة مع اليهود في فلسطين، على غرار المناطق الصناعية المؤهلة في مصر والأردن مثلاً، فيمد العدو بأسباب القوة، وبالمشروعية وبموطئ القدم لاختراق الأسواق العربية، ناهيك عن كونه تطبيعاً.
وكذلك يمكن توجيه الدعم المالي للمقدسيين، وللفلسطينيين تحت الاحتلال عامة، لمن ينوي ذلك فعلاً، عبر جمعياتهم ومؤسساتهم وشخصياتهم المشهود لها بالنزاهة ونظافة اليد، عبر مصارف أوروبية أو عالمية مثلاً، دونما حاجة للتذرع بذلك لإقامة علاقات تطبيعية اقتصادية أو غير اقتصادية مع العدو الصهيوني. أما السياحة العربية والإسلامية في القدس، بذريعة دعم صمود المقدسيين اقتصادياً، فإن حوالي 93% من العائدات السياحية في القدس تذهب لليهود، لا للعرب، حسب إحصائية عمرها بضعة سنوات. فالدعم هنا يكون فعلياً للاقتصاد الصهيوني، لا للمقدسيين. والحقيقة أننا عندما نسمع في وسائل الإعلام عن علاقات تطبيعية بذريعة دعم أهلنا، فإننا نرى كثيراً من التطبيع، دون أن نرى دعماً يذكر لهم! ولو كانت الأنظمة العربية معنية حقاً بدعم الصمود العربي تحت الاحتلال لقامت بقدرٍ أكبر بكثير لدعم ذلك الصمود البطولي، وبقدرٍ أقل بكثير من التطبيع.
والأهم أن كل عربي أو مسلم يدخل فلسطين في ظل الاحتلال يدخلها بتأشيرة من سفارة صهيونية، وهو ما يمثل اعترافاً بالكيان الصهيوني وتطبيعاً معه، وهو ما ينسحب أيضاً على “التصريحات” بدخول مناطق السلطة الفلسطينية التي لا تصدر أيضاً إلا بموافقة الاحتلال أيضاً، فالدعم في تلك الحالة هو لمشروعية اتفاقية أوسلو، أي للاحتلال، وليس للشعب العربي الفلسطيني.
ومن الواضح أن السجين لا يملك أن يرفض الطعام من سجانه، إلا في حالات التصعيد النضالي القصوى، مثل الإضراب عن الطعام (وهي حالات لا بد منها لإبقاء حاجز العداء مع الاحتلال قائماً). وكذلك لا يملك أهلنا في ال48 مثلاً أن يقاطعوا المنتجات الصهيونية التي لا يوجد لها بديل موازي، إذا أرادوا البقاء في الأرض، مع ضرورة التفكير بمشاريع وطنية مدعومة عربياً لتأسيس مثل تلك البدائل.
والمواطن العربي في ال48 مثلاً قد يضطر للتعامل مع المحتل الغاصب يومياً عندما يريد استصدار ورقة رسمية أو رخصة قيادة سيارة أو عندما يقدم طلباً لدخول الجامعة أو الحصول على عمل الخ… ولا يمثل ذلك تطبيعاً بمقدار ما لا يملك فيه خياراً، ويمثل تطبيعا بمقدار ما يملك خيارات بديلة موازية أو تقل قليلاً. لكن شتان ما بين ذلك وما بين الانخراط في المؤسسات الصهيونية السيادية مثل “جيش الدفاع الإسرائيلي” (لاحظ أن تبني مثل تلك التسمية بدون مزدوجين يعتبر تطبيعاً، والأصح القول: الجيش الصهيوني)، ومثل الاحزاب الصهيونية أو وزارة الخارجية أو الكنيست.
فماذا عن زيارة القدس في ظل الاحتلال، للصلاة في الأقصى مثلاً، أو كنيسة القيامة؟ من ناحية وطنية، فإن دخولها في ظل الاحتلال يمثل اعترافاً بمشروعية الاحتلال، وبالتالي يمثل تطبيعا بالنسبة لمن يدخلها من خارج فلسطين أو الجولان بموافقة صهيونية، مهما كانت التسميات. أما لمن كان تحت الاحتلال أصلاً، فدخولها مشروعٌ وواجبٌ على من يقيم في أي رقعة أرض خاضعة للعدو الصهيوني، ما دام يعيش تحت الاحتلال أصلاً، وما دام دخوله إليها بهدف دعمها والدفاع عنها وعن أماكنها المقدسة وتعزيز صمودها، وينطبق هذا على أهل الضفة الغربية طبعاً ما دام ذلك لا يتطلب منهم تقديم أي تنازلات خاصة تطبيعية في العلاقة مع العدو الصهيوني، وكذلك على زيارة الجولان أو الضفة من قبل حملة الهوية الزرقاء (“الإسرائيلية”). ومن الواضح أننا نتحدث هنا عن الدخول للقدس بغرض دعمها، من قبل الواقعين تحت الاحتلال أصلاً، وليس عن الدخول للقدس لممارسة التطبيع والاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود بذريعة دعمها! فالعدو الصهيوني انتقل في القدس من الأسرلة للتهويد، ومن واجب كل فلسطيني يستطيع دخول القدس، بدون ممارسة التطبيع، أن يدافع عنها. أما من هو في الخارج، فمن واجبه أن يعمل لتحريرها، لا أن يطبع العلاقات مع من يحتلها ويهودها.
العبرة إذن هي في السعي للدخول إلى فلسطين بدون تطبيع، ولذلك فإن العملية الفدائية التي يتم فيها التسلل إلى فلسطين أو الجولان بالرغم من العدو الصهيوني، ومن يحميه، تمثل أرقى اشكال العمل المناهض للتطبيع… والأساس في تقييم الحالة العامة هنا هو وجود نفس مقاوم وحركة مقاومة يمكن أن تجتهد فتخطئ أو تصيب حول ما يمثل تطبيعاً، ولا يمثل من تخلوا عن المقاومة وتبنوا نهج التسوية مع العدو الصهيوني مرجعية حول ما يمثل تطبيعاً، لأن عقليتهم مطبعة. وتتلخص مشكلة اتفاقية أوسلو أنها بررت التطبيع بذريعة إدخال بضع عشرات الآلاف مع السلطة الفلسطينية إلى الضفة وغزة، فضيعت الكل، بذريعة الحصول على فتات، ولو دخل هؤلاء إلى أي جزء من فلسطين بدون تطبيع واتفاقية “سلام” وتأسيس سلطة تابعة للاحتلال لاختلف التقييم والموقف طبعاً.
فماذا عن الدخول للأرض المحتلة عام 48 من قبل أهل الضفة الغربية أو غزة؟ كثيراً ما يختلط الحابل بالنابل هنا، خاصة أن العدو الصهيوني يعقّد ويعيق مثل ذلك الدخول ويستغله لإسقاط الناس أمنياً في بعض الحالات. فالبعض من الأراضي المحتلة عام 67 يحاول دخول الأراضي المحتلة عام 48 للعمل في المنشآت الاقتصادية الصهيونية، والبعض يدخل للسياحة أو العلاج أو زيارة الأقارب، والبعض يخاطر بنفسه متسللاً… لقضاء سهرة حمراء في الحانات “الإسرائيلية”!!!
والموقف المبدئي في تلك الحالات جميعها أن أي تعامل طبيعي مع العدو الصهيوني يمثل تطبيعاً، ويمد العدو الصهيوني بأسباب القوة، وينطبق ذلك بالأخص على من يعملون بتشييد المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية وفي محيط القدس.
ولعل من أهم اشكال دعم شعبنا التي يتوجب التفكير فيها هي إيجاد برامج اقتصادية وبرامج تشغيل (ليس على طريقة د. سلام فياض طبعاً!) تتيح لشبابنا إمكانية الصمود في الأرض دون تقديم قوة عملهم الرخيصة للعدو الصهيوني. كذلك لا بد من التفكير بإنشاء مؤسسات صحية وتعليمية عالية الجودة، سواء في ال48 أو 67، تتيح للناس الاستغناء عن التوجه لبدائلها “الإسرائيلية”، والأهم، لا بد من تعزيز ثقافة مقاطعة الاحتلال ومنتجاته ومؤسساته، وهو ما يمكن اعتباره جزءاً من مشروع مقاوم يصعب أن يتحقق بدون تلقي الدعم من حركة مقاومة عربية شاملة.
ويصعب على الأفراد أن يمارسوا قناعاتهم في المقاطعة خارج سياق مشروع وطني، غير فردي، وتصبح المشكلة أعقد بكثير في غياب مشروع وطني للمقاطعة وللتنمية البديلة المستندة إلى مشروع مقاومة وتحرير، ولو بمستوى مشاريع غاندي لصناعة الملح في الهند تحت الاحتلال البريطاني، فعندها يصبح عبء ممارسة المقاطعة الاقتصادية عبئاً فردياً… وهنا نقول مع الآية القرآنية “فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا اثم عليه”، وليس هناك “مضطر” للخيانة والعمالة ولممارسة التطبيع بالطبع.
ولو سكتنا استثناءً عن حالة خاصة مثل حاجة مواطن جائع وعاطل عن العمل، ولا يجد من يقدم له دعماً، للعمل في منشأة اقتصادية يهودية في الأراضي المحتلة عام 48، فإن ذلك لا يعني أبداً تبرير التطبيع الاقتصادي الجماعي مع العدو الصهيوني، أو تبرير قوننة التطبيع، كما في اتفاق باريس بين السلطة الفلسطينية والعدو الصهيوني… ولا تبرير لمن يأتي من خارج فلسطين للعمل في مثل تلك المنشآت وبلاد الله واسعةٌ… كما أن هنالك فرقاً بالطبع بين ابن الضفة أو غزة، تحديداً، الذي يسعى للدخول للأراضي المحتلة عام 48 لمشاهدة بيت أبيه أو جده المحتل، وبين من يسعى للدخول لأغراض سخيفة أو لا ضرورة لها اصلاً، أو تطبيعية علناً، مثل المشاركة في مؤتمرات أو نشاطات فنية أو رياضية أو أكاديمية مع يهود “إسرائيليين”.
ومرة أخرى، القاعدة هنا هي تثبيت الصمود في الأرض ودعمه بوسائل القوة والاستمرار، ولكن دون استغلال تلك الذريعة لتبرير التطبيع مع العدو الصهيوني، ودون تحويل الحالات الفردية في ظل غياب مشروع فلسطيني وعربي للمقاطعة وإيجاد بدائل إلى مداخل لانهيار وطني فلسطيني عام ومن ثم العمل لتصدير مثل ذلك الانهيار للشارع العربي…
فماذا عن المواطنين الأردنيين فلسطينيي الأصل ممن يحملون بطاقة صفراء أردنية ممن منحهم العدو الصهيوني “لم شمل” أو “تصريح إقامة” عشية وقوع احتلال عام 67، أي ممن يحق لهم زيارة فلسطين المحتلة عام 67؟
الموقف الوطني المبدئي هنا هو السعي للتمسك بالأرض والصمود فيها. وزيارة الضفة والإقامة فيها، لمن يستطيع تأمين معيشته وعائلته فيها، ليست مستحبة فحسب، بل واجبة، ولا تمثل تطبيعاً ما دام غرض الزيارة غير تطبيعي بحد ذاته (مثل المشاركة في مؤتمر أو نشاط تطبيعي، أو العمل في بناء مستعمرة صهيونية بذريعة تأمين لقمة العيش!). فالبطاقة الصفراء، ما دامت قد مُنحت، تتيح للأردني من أصل فلسطيني الدخول للضفة، كما تتيح البطاقة الخضراء للأردني الحائز على جواز السنتين، أي المقيم في الضفة الغربية، أن يعود لفلسطين إذا خرج منها. ويعتبر تعزيز العلاقات مع أهلنا في الأرض المحتلة عام 48 أو 67، والقيام بما هو لازم لدعم صمودهم وبقائهم في الأرض، عملاً مناهضاً للصهيونية في النهاية.
وفي الخلاصة نقول أن الحفاظ على حاجز العداء إزاء التواجد اليهودي على ارض فلسطين هو جوهر مقاومة التطبيع، وما دام ذلك الحاجز قائماً ويجري تعزيزه باستمرار، فإن ما يعتبر وما لا يعتبر تطبيعاً يكاد يصبح أمراً بديهياً عند أي شخص غير ملوث بحسابات شخصية أو انتهازية أو مخترقة سياسياً وأمنياً. وعلى هذه الأرضية من الوعي الوطني يمكن التحرك في المنطقة الرمادية أحياناً بين الحفاظ على الوجود الفلسطيني في الأرض المحتلة وبين الانزلاق في ممارسة التطبيع، الذي يؤدي إلى تضييع الأرض والقضية، بلا خوفٍ من تضييع المقاييس وفقدان البوصلة. والقاعدة بالنسبة لزيارة الضفة أو غزة أو الأراضي المحتلة عام 48 هي: إذا جاءت الزيارة بموافقة العدو الصهيوني، أو بالتنسيق معه، فهي تطبيع، وإلا فهي عمل وطني أو ليست تطبيعاً.
No comments:
Post a Comment